07-11-2019 11:29 AM
بقلم :
سرايا - لذكرياته روائح مستخلصة من الحقول والأرض الطيبة،كل يوم ينتهي فيه رغم التعب بسرور ونشوة فرح ممزوجة بعبق ساحر، كأنه عطر مُترف رُكب بقدرةٍ آلهية، مكوناته حبات الزيتون وأوراقه مع كثير من رائحة العشب اليابس والرطب في صباح يوم خريفي بارد يلفح والوجه بخفة ورشاقةويدفعك للسعادة دفعاً مهما كانت هموم الدنيا ثقيلة عليك.
نعم لكل يوم في هذا الموسم رائحة كما روائح العطور الفرنسية المترفة تبدأ تداعب حواسك مع كل صباح بشَّذا يُذكي العواطف لتخلق عندك حالة يسميها العارفين بصناعة العطور "ألانطباع الاول" لدرجة أنها تأسر كل مشاعرك فتصل بك لمرحلة من الشرود كما الذي رأى نعيم ربه للتو
لتدخل بعدها بقليل بالاحساس "بجوهر" أو أساس العطر، حالة أخرى تجعلك تتأمل في ذات النعيم نفسه مع شعورك بالعجز عن حصر كل تفاصيلة .
تلتقط أنفاسك من كل ذلك فتجدك في تتناغم مع كل تلك المشاعر وكأنك وصلت "لروح" العطر أو قاعدته فتصبح كالذي يتكأ على "سُّرر مرفوعة"ينتظر أن تلبى كل رغباته بمجرد أن تخطر بباله
موسم الزيتون موسم الاجداد الكادحين ومخزن للتراث والتقاليد الراسخة والعريقة، حصاده مشاعر قبل أن تكون زيت يُخزن بجرار فخاريه تسمى"مداهن " ومفردها مدهنة يغرف منها أولاً بأول لقوت كل الاسرة الممتدة" الاباء والابناء والبنات المتزوجات وربما الاحفاد" وما يزيد يمكن بيعه أو يبقى للعام التالي إن كانت أسعاره متدنية فقد قيل بذلك"خلي الزيت بجراره حتى تيجيك أسعاره"
ولا تبدأ مراسم وطقوس القطاف إلا بعد الشتوة الاولى المعروفة ب"شتوة المساطيح" والتي قد يسبقها عملية جمع الحبات المتساقطة من تحت الشجر ويطلق عليها "جوال" وربما تجمع معها حبات السنة الماضية والمسماة"كركيع" فهي بركة وما زال يمكن إستخراج الزيت منها.
وبعد شتوة المساطيح يبدأ "فراط الزيتون" بمعنى فرط الثمر عن الشجر باليد فقط وتكون إما على سلالم مصنوعة من" شجر الحور" أو بتسلق جذوعهامن قبل الرجال، وللنساء دور في "فراط الزيتون" حيث يترك لهن الجوانب والاغصان المتدلية القريبة من سطح الأرض، أما الحبات العالية التي يصعب الوصول اليها فيتم قطفها بواسطة عصي طويلة مقطوعة من شجر الرمان مقومة على النار تسمى "رطيبة".
تجد الكل يحف الشجرة كأنها عروس توضب زينتها للمرة الأخيرةقبل أن تُزف لعريسها، وعلى الاغلب يشارك في هذا المشهد "فزعة وعونة" من الاقارب والأصدقاء.
وفي خضم كل تلك الطقوس يتولى أحدهم وعلى الاغلب الاكثر خبرة وعمراً قص جذوع الاشجار والاغصان التي يراها زائدة فهو يعرف أن بهذا خيرٌ كبير للشجرة وزيادة في محصول السنة التالية عملاً بالمثل الشعبي" شيل أخوي عني وخذ خيره مني"
تجمع الحبات من على الارض بأيدي النساء وتوضع بأكياس من" الخيش" وربما تنقل على الحمير لمعصرة "البد الحجري" أو "القفاف" كل يوم بيومه فأطيب الزيت يكون "من الشجر للحجر"
نعم هي شجرة مباركة ويليق بها موسم عظيم طقوسه كثيرة وطويلة كلها إجلال وإحترام، كيف لا وقد ذكرها الله ورفع من شأنها في محكم تنزيله بقوله " زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء "