بقلم : الدكتور الصحفي غازي السرحان

الدكتور محي الدين المصري 1935-2025.. المناضل الذي لم يبحث عن مسميات او مناصب او امتيازات وقصة الاتحاد العربي والخنساء وصندوق العجائب وماكنة الخياطة والوجه الاخر لواقع الحياه

" النعيمة "تقع على مقربة من سهل حوران ونهاية سلسلة جبال عجلون المطلة على جبل الشيخ وجبل العرب، وتشتهر بسهولها الواسعة واشجار الزيتون وبكثرة متعلميها ومفكريها حيث برز منهم روؤساء وزارات ورجالات دولة وقيادات سياسية وثقافية وحزبية .

ولد المرحوم الدكتور محي الدين المصري عام 1935 في النعيمة , وتوفي عن عمر يناهز 90 عاما , درس في مدرستها الوحيدة آنذاك في الاربعينيات والخمسينيات وكان احد طلابها وتتكون تلك المدرسة من 4 غرف وتضم كل غرفة صفين ويعلمهم معلم واحد.
يتجلى امامي مناضلا ومفكرا ومثقفا واديبا ومعلما وقياديا سياسيا , هو ذا الدكتور محي الدين سليمان المصري .عاش المعاناة في اقصى صورها في بيت من 3 غرف مع والدية وشقيقتين وشقيق ,كان طعام الإفطار للعائلة بسيطا عبارة عن زيت وزعتر وشاي, وفي سنوات القحط تكتفي العائلة بخبز الشعير. لم تكن الحياه آنذاك باذخة فليس بالبلدة ملاعب رياضية أو دار للسينما , انما كان جل ما يجده أهالي البلدة آنذاك من رفاهية هو "صندوق العجائب" الذي يحمل على ظهر شخص يعرض صور مثل ابوزيد الهلالي وغيرة , كان ميالا للقراءة بعكس زملائه الذين كانوا يميلون للعب فحصل على المركز الأول وذهب الى مدرسة اربد الثانوية , كان لدى الأسرة ماكنة خياطة لحياكة وخياطة الملابس تتقن والدته و شقيقاته العمل عليها مما يسر لهم دخلا ماديا مناسبا لم يجعل من الدكتور محي الدين شخصية باذخة , ولما كان بالصف الثالث والرابع الابتدائي من الطلبة المتفوقين ارتأى والده إرساله الى دمشق لمواصلة تعليمه في العلوم الشرعيّة و الدينيه الا أنه لم يكن يريد السفر الى دمشق فاصدم برفض والده , فاتجه لوالدته وشقيقاته لمناصرته في مسعاة للذهاب الى مدرسة اربد الثانوية بدلا من دمشق إضافة الى توسطه عند احد شيوخ بلدته للتدخل لدى والدة لثنية عن قرارة بأرساله الى دمشق فجاءت امه وشقيقته فاطمة التي لقبها بالخنساء لقوة ارادتها الى والدة وتعهدن بالإنفاق على دراستة في اربد .
والده المرحوم فضيلة الشيخ سليمان عبد القادر المصري والذي درس الشريعة الإسلامية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ومعروف في كل بلاد الشام والحجاز وأنه كان يلقي الدروس الدينية في هذا المجال ، كانت أجواء العائلة تعج بأجواء ثقافية ودينية , وفي الصف الثالث الابتدائي كان المرحوم الدكتور محي الدين المصري يقرأ الصحف المصرية المصور والهلال واخر ساعة وغيرها وبانتقاله لمدرسة اربد الثانوية اتجه لقرائه الادب المترجم لمشاهير الكتاب مثل ارنست هيمنجواي وفيكتور هيجو , وكان يحصل على الكتب والمجلات التي كان يطالعها آنذاك من خلال المرحوم نايف شهاب قريب المرحوم حمد الفرحان وكان يستعيرها لقراءتها, وبنهاية الاربعينات والخمسينيات وعندما بدأت الافكار " السياسية والحزبية " القومية منها مثل حزب البعث العربي الاشتراكي والقوميين العرب والشيوعي وحزب التحرير والاخوان المسلمين تغزو المدارس وأيضا كان لتأثره بمعلم التاريخ آنذاك واصف الصليبي دورا مهما بالاتجاه اتجاها قوميا .
في خمسينيات القرن الماضي انهى دراسة الثانوية العامة وكان خلالها امينا عاما لاتحاد الطلاب وهي فترة مهمة في بناء الأردن كان رئيس الوزراء الأردني آنذاك فوزي الملقي قد عمل على الانفتاح على الحريات والتقى بتلك الافكار مع فكر جلالة الملك الحسين بن طلال رحمة الله فسمح بإقامة المؤتمرات والنقابات وكان الملقي متبنيا لآراء الملك الحسين رحمة الله . إنشاء الملك الراحل الحسين ووصفي التل رحمهما الله في سبعينيات القرن الماضي فكرة الاتحاد الوطني وكان المرحوم الدكتور محي الدين المصري بهذه الفترة يشغل في الفترة من 73-74 مديرا للاتحاد الوطني بالشمال .
درس المرحوم الدكتور محي الدين المصري التاريخ في جامعه دمشق لإيمانه ان من لا يدرس التاريخ لا يعرف السياسة والاقتصاد والاجتماع عمل الدكتور محي الدين مجال التعليم مدرساً في مدرسة النعيمه و سال و غيرهما من بلدات الشمال ثم مديراً لمدرسة معاذ بن جبل ولما تسلمها لم يكن الا 10 % من طلبتها يتقنون القراءة والكتابة حيث لا وسيلة إيضاح او مقاعد كافية وبجهدة الذاتي و تعاون أبناء البارحه انجز مدرسة تكاد تكون متميزة عن مثيلاتها في ذلك الوقت . كان متزوجا ولدية من الأبناء والبنات 9 ليواجه تحديا كبيرا اذ كيف سيوفق بين دراسته وعملة ورب اسرة اختار الدكتور محي الدين المصري العمل مدرسا لإيمانه ان التعليم رسالة , وكان رئيس الوزراء آنذاك دولة سليمان النابلسي وكان بإمكانه ان يحصل على عمل في الديوان الملكي او وزارة الخارجية ,اختار التعليم وتراوح عملة في سلك التعليم بين مدرسا ومدير مدرسة . خلال تلك الفترة تشكل الاتحاد الوطني بنهاية عام 1970 ويهدف الاتحاد الى إقامة المملكة العربية المتحدة فانتخبت مديرا للاتحاد الوطني وتعرف خلالها على مفاتيح القرى والمؤثرين بها ,
عين الدكتور محي الدين المصري مستشاراً ثقافياً بالمغرب ليؤسس هناك ملامح الحياه الثقافية في المغرب وبناء علاقات ثقافية بين الأردن والمغرب فنجح بإيفاد مئات المعلمين الأردنيين الى المغرب لزيادة التلاقح بين الشعبين مؤمنا أن هذه الغاية لا تتحقق الا بواسطة أناس مثقفين ومتعلمين و ساهم في إيفاد المئات من الطلبة الأردنيين في بعثات من الحكومة المغربيه حيث نالوا تحصيلا أكاديميا متميزاً من الجاامعات المغربية.
ثم نقل للقاهرة ليعمل مستشاراً ثقافياً و ممثلاً للأردن بجامعة الدول العربية , حيث وصل عدد الطلبة الأردنيين بمصر 17000 طالب اردني خلال الفترة التي عمل بها هناك , , ثم في تونس فعمل هناك مندوبا للأردن في بعض مؤسسات العمل العربي المشترك ومها المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم ،استطاع نقل الثقافة الأردنية الى تونس بإنشاء مدرسة فيها سميت المدرسة العربية وفق المناهج الأردنية وعلى نفقه الجامعة العربية.
تربطني علاقة وطيدة بالمرحوم الدكتور محي الدين المصري أبو نضال وقد التقينا عدة مرات ودارات بيننا حوارات , كان يترجم إحساسا عاليا بالحياة يتفرد بهوية جامعه وطنية منفتحة لها جذور عميقة في التاريخ , ناضل كي يتعلم جميع أبناءه، اثنان منهم يحملان درجة الدكتوراه , كان عصاميا ومناضلا استطاع ان يكون رب عائلة ناجحة في حياتها وتخدم وطنها كان يعمل ويعلم أبناءه وطالبا بنفس الوقت, ودائما كانت تأسرني شخصيته الأردنية البسيطة غير المعقدة وثقافته الوجدانية انه بامتياز شخصيه أردنية قومية فريدة، متمترسا وراء وعيه ثابتا واحدا لم يتعدد فظل مثقفا نقيضا للمثقف السلطوي والمدجن يمتاز ببصيرة ووعي سياسي وثقافي , كان منتميا ومشتبكا ومثقفا قلقا في سياق الحياه الثقافية والسياسية العربية , اتجاهه قوميا يرى اننا في الأردن جزء من النهضة العربية الكبرى التي نادى بها الحسين بن علي كأول مشروع نهضوي عربي ,كان دائما في صلب الحدث السياسي والاجتماعي والثقافي ,كان مثقفا له بصمتة التي تركها في وعي الأجيال التي عرفته حق المعرفة ,لم يبحث عن مسميات او مناصب او امتيازات , ظل حارسا امينا لمنظومته القيمية والإنسانية الراسخة فالناس في احاديثه هم نحن بكل ما فيهم، يرتقي" أبا نضال " اليوم بروح وطنية عالية متفردة , ستفتقدك رجوم الفيافي وبيادر القمح وتلك السفوح والناس الطيبين . رحمة الله عليك أبا نضال المليء بالقيم والشيم الأصيلة ينبض بكثير من القصص والحكايات والأحداث والمواقف .
رأيت مشهدا لا يصدق وفود كثيرة تتدافع جماعات وافراد من كل حدب وصوب أولهم حزين وأخرهم حزين يودعون بمزيد من الحزن والأسى تلك الروح الوديعة الطيبة. عليك رحمة الله أبا نضال .