29-12-2025 09:28 AM
بقلم : أمل خضر
لا يُقاس القادة بطول بقائهم في المشهد، بل بقدرتهم على منع السقوط حين يصبح السقوط هو القاعدة.
وفي زمنٍ تحوّل فيه الصراخ إلى سياسة، والفوضى إلى بطولة، والشعار إلى بديلٍ عن الدولة، وقف ملك الأردن ليقول إن العقل ليس ضعفًا، بل أعلى مراتب القوة.
لم يكن الملك عبدالله الثاني رجلَ اصطدامٍ مع الواقع، ولا حاكمَ مراوغةٍ مع اللحظة. كان قائدًا قرأ طبيعة الزمن، وفهم وحشيّته، ورفض أن يُدار بمنطق الانفعال. لم يدفع ثمن العقل كما أراد له خصومه أن يُصوّروا، بل رفع كلفة الجنون على من اختاروه. وفي إقليمٍ يُكافئ التهور، ويصفّق للانهيار، ويمنح الأضواء لمن يحرق بلاده باسم الجماهير، وقف الأردن خارج السيرك السياسي، وبنى مسافةً أخلاقية لم يجرؤ كثيرون على بنائها.
الأردن لم يكن يومًا دولة فائضة عن الحاجة، ولا كيانًا مؤقتًا في خرائط الآخرين. هو دولة تعرف وزنها، وتعرف حدودها، وتعرف متى تقول هنا نحمي الإنسان قبل الحسابات. من هنا لم يكن هذا الملك ملك مجازفات، بل ملك التوازن العادل؛ لم يبع أمن شعبه مقابل تصفيقٍ عابر، ولم يساوم على ثوابت بلاده لإرضاء نزوات الإقليم. قال بوضوح ما حاول كثيرون الهروب منه الدولة لا تُدار بالهتاف، والكرامة لا تُحمى بالفوضى، والغضب مفهوم، لكن الحكم مسؤولية.
هذا الموقف لم يولد في فراغ. لقد تشكّل على إرثٍ سياسي وأخلاقي عميق، امتد من مدرسة والده الحسين بن طلال، الذي علّم أن الملك ليس من تُرفع له الرايات كل يوم، بل من يُبقي الوطن مرفوعًا حين تنكسر الرايات. غير أن الابن طبّق هذه الحكمة في زمنٍ أشد قسوة؛ زمنٍ يفتك بالقادة قبل الدول، وبالقيم قبل الجغرافيا.
وفي فلسطين، حيث خفّ صوت كثيرين حتى صار حيادًا، وحيث تحوّلت العدالة إلى بندٍ مؤجّل، بقي الموقف واضحًا كالشمس. لم تُوارَ الجريمة بمصطلحات دبلوماسية باردة، ولم يُخفَ الموقف خلف بيانات رمادية. قيل بوضوح إن ما يحدث ظلم، وإن التهجير جريمة، وإن أي حلول تُفرض على حساب الأردن والإنسان الفلسطيني مرفوضة أخلاقيًا قبل أن تكون مرفوضة سياسيًا. وفي غزة، حين تبدّلت الرياح وتغيّرت الحسابات، بقي الصوت ثابتًا؛ لأن الثابت وحده لا يحتاج إلى تبرير.
بدا هذا الموقف أحيانًا وحيدًا، لأن السلام الحقيقي لا يولد من إجماعٍ هش، بل من شجاعةٍ صامتة. ولأن الإنسانية لم تعد خيارًا شائعًا في عالم المصالح. لم يكن الملك عبدالله الثاني ابنَ الاصطفافات السهلة، بل حارس الكرامة الإنسانية. لم يُزايد، ولم يُتاجر بالدم، ولم يحوّل المأساة إلى منصة خطابية. حكم مجتمعًا مثقلًا بالتحديات اقتصاد ضاغط، وتعب اجتماعي، وتحولات إقليمية قاسية، ومع ذلك لم يبع الأوهام، ولم يعد بما لا يملك.
وهنا تتجلّى قوته الحقيقيةأنه لم يخدع شعبه ليُحبّه، بل صدقه ليحميه. في عالمٍ يكافئ الكذب السياسي، اختار الصدق سياسةً، واختار الإنسان بوصلةً. واليوم، لم يعد مجرد ملكٍ لدولة اسمها الأردن، بل مرجعية أخلاقية في عالمٍ أنهكته الحروب وأضناه الزيف.
هو ملك السلام حين صار السلام شجاعة، وملك الإنسانية حين صارت الإنسانية تهمة. وفي شرقٍ اعتاد أن ينحني للقوة، يستحق أن تنحني له الدول احترامًا؛ لا لأنه الأقوى سلاحًا، بل لأنه الأقوى ضميرًا.
لم يُعاقَب هذا الملك، بل انتصر. وانتصاره ليس شخصيًا، بل انتصارٌ لفكرةٍ كبرى أن الدولة يمكن أن تكون عادلة، وأن السياسة يمكن أن تكون إنسانية، وأن الملك يمكن أن يكون ملكًا للسلام لا أميرًا للضجيج.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
29-12-2025 09:28 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||