حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأحد ,28 ديسمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 6659

د. هيثم علي حجازي يكتب: معاهد الإدارة العامة ودورها في تطوير القطاع العام

د. هيثم علي حجازي يكتب: معاهد الإدارة العامة ودورها في تطوير القطاع العام

د. هيثم علي حجازي يكتب: معاهد الإدارة العامة ودورها في تطوير القطاع العام

28-12-2025 02:04 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. هيثم علي حجازي
تُعد معاهد الإدارة العامة في دول العالم أحد الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها جهود بناء الدولة الحديثة، لما تضطلع به من دور محوري في تنمية رأس المال البشري، وتعزيز كفاءة الجهاز الحكومي، ودعم تطوير القطاع العام. وفي عالم يتسم بتسارع التحولات الاقتصادية والتكنولوجية، لم يعد تطوير الموارد البشرية الحكومية مسألة تدريب تقني فحسب، بل خيارا استراتيجيا ينعكس مباشرة على جودة السياسات العامة، وكفاءة الخدمات، وثقة المواطنين بالمؤسسات.
من الناحية المفاهيمية، تقوم معاهد الإدارة العامة بثلاث وظائف مترابطة: (1) تنمية رأس المال البشري الحكومي عبر التدريب وبناء المهارات الإدارية والقيادية والفنية (2) دعم جهود تطوير القطاع العام من خلال نشر مفاهيم الإدارة الحديثة، وإدارة التغيير المؤسسي، ومواكبة السياسات الوطنية (3) إنتاج المعرفة التطبيقية عبر الدراسات والاستشارات التي تسهم في معالجة مشكلات الأداء الحكومي.
وتُقاس فاعلية هذه الأدوار "ليس بعدد الدورات أو المتدربين" و"العوائد المالية المتحققة" بل بمدى إسهامها في تحسين الأداء المؤسسي، ورفع كفاءة الخدمات العامة، وتحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.
يمتلك معهد الإدارة العامة في الأردن، منذ تأسيسه، تاريخا مؤسسيا طويلا جعله جزءا أصيلا من منظومة الإدارة العامة الأردنية، وأسهم عبر عقود مضت في تدريب أعداد كبيرة من موظفي القطاع العام من داخل المملكة ومن الدول العربية الشقيقة. وقد منحه هذا الرصيد موقعا مهما، وقدرة كامنة على التأثير في مسار التطوير الإداري. فقد عمل المعهد خلال العقود التي تلت تأسيسه على تقديم برامج تدريبية متنوعة استهدفت مختلف المستويات الوظيفية، وغطت مجالات الإدارة، والقيادة، والتواصل، وإدارة الأداء. كما تقاطعت هذه البرامج مع الكفايات والمسارات الوظيفية المعتمدة في الخدمة المدنية، مما عزز من ملاءمتها للاحتياجات العامة للجهاز الحكومي؛ غير أن هذا الدور، على أهميته، أصبح هذه الايام موضع تساؤل، كونه لا يزال في كثير من الأحيان يركّز على عملية التدريب ذاتها أكثر من تركيزه على نتائج التدريب، إذ يظل قياس الأثر الفعلي في الأداء الوظيفي والمؤسسي معدوما، وما يزال حضوره في مسار التطوير المؤسسي شكليا، أقرب إلى الدور الداعم منه إلى الدور القيادي، خاصة وأن ضعف المتابعة بعد انتهاء التدريب، وغياب إشراك المديرين المباشرين في تقييم التغيير السلوكي، يؤدي إلى فقدان جزء كبير من الأثر المحتمل للتدريب.
تُظهر المقارنة مع تجارب دولية في سنغافورة وكندا وماليزيا وكوريا الجنوبية أن التميز لا يكمن في عدد البرامج ولا في حجم العوائد المالية المتحققة، بل في (1) وضوح المنهجيات وربط التدريب بالأهداف الحكومية الكبرى (2) اعتماد نماذج متقدمة لقياس الأثر المؤسسي، لا الاكتفاء بقياس الرضا (3) أن يعمل المعهد بوصفه “أكاديمية حكومية” تجمع بين التدريب، والاستشارات، والبحث التطبيقي، وبناء القيادات. ومن خلال دراسة هذه التجارب يتبين وجود فجوة منهجية لدى معهد الإدارة العامة في الأردن، يمكنه ردمها دون الحاجة إلى موارد استثنائية، بل عبر إعادة هيكلة المعهد على مختلف المستويات الوظيفية، وإعادة توجيه الأدوار والأدوات. ويفتح ردم هذه الفجوة القائمة المجال أمام المعهد للانتقال إلى مرحلة أكثر نضجا وتأثيرا من خلال (1) ربط التدريب مباشرةً بالأولويات الحكومية ونتائج الأداء (2) اعتماد منهجيات علمية لقياس الأثر على السلوك والنتائج المؤسسية (3) التحول إلى أكاديمية حكومية (4) بناء مسارات قيادية مرتبطة بمشروعات إصلاح حقيقية (5) تفعيل دور الدراسات والاستشارات كذراع إصلاحي لا كنشاط ثانوي.
يرتبط معهد الإدارة العامة في الأردن حاليا بالجهة المعنية بتطوير القطاع العام، والتي تتغير تسميتها وتركيبتها السياسية مع تغير الحكومات، وغالبا ما تمثلها وزارة تطوير القطاع العام أو ما يقوم مقامها. والإشكالية المطروحة هنا ليست في الوزارة ذاتها، بل في تغير الوزراء وتبدل الأولويات، وما يترتب على ذلك من أثر مباشر على استقرار دور المعهد واستدامة استراتيجيته. وارتباط المعهد بوزير التطوير له آثره الإيجابي المتمثل في القرب من مركز القرار ، لكن في الوقت ذاته هناك آثار سلبية لمثل هذا الارتباط تتمثل في (1) عدم الاستقرار الاستراتيجي بسبب تغير الوزراء بشكل متكرر مما يؤدي غالبا إلى تبدل الأولويات، وإعادة توجيه البرامج، وتعطيل مبادرات طويلة المدى، و تسييس الدور المهني في بعض الحالات، إذ قد يتحول المعهد إلى منفّذ لبرامج مرتبطة برؤيا الوزير لا برؤيا الدولة خاصة مع اقترابنا من تشكيل الحكومات البرلمانية – الحزبية (2) ضعف الاستدامة المؤسسية، فالتطوير الإداري بطبيعته تراكمي وبطيء، بينما التغيير الوزاري سريع، مما يخلق فجوة زمنية بين التخطيط والتنفيذ.
فهل من الضرورة أن ينتقل المعهد الى مرحلة الاستقلالية عن وزارة تطوير القطاع العام؟ لمثل هذا التوجه مزايا ومساوئ. فمن مزايا الاستقلالية: (1) ضمان استقرار الرؤيا والاستراتيجية (2) تعزيز المهنية والحياد بحيث يصبح المعهد بيت خبرة وطني محايد، ومرجعية مهنية للإدارة العامة، لا أداة تنفيذية ظرفية. اما مخاطر هذا التوجه الاستقلالي فتكمن في: (1) الانفصال عن أجندة التطوير الفعلية إذا لم يُصمم الاستقلال بشكل صحيح، إذ قد يتحول المعهد إلى مؤسسة تدريبية معزولة، أو أكاديمية نظرية بعيدة عن واقع السياسات (2) ضعف الالتزام الحكومي بدون غطاء سياسي، فقد تواجه برامج المعهد ضعف التزام بعض الوزارات، أو التعامل معها بوصفها “اختيارية”.
إذن: ما الانموذج الأنسب للأردن؟ التجارب الدولية الناجحة لا تأخذ بأحد الخيارين بشكل مطلق، بل تعتمد نموذجا هجينا: استقلال تشغيلي واستراتيجي مع ارتباط سياسي وتوجيهي على مستوى الدولة لا الوزير. أي أن عمل المعهد لا يتأثر بتغير الوزير، وفي الوقت نفسه لا يعمل بمعزل عن أولويات الإصلاح الوطني.
وبناء عليه، فإن الأنموذج المقترح الذي يمكن الأخذ به هو أحد خيارين: (1) استقلال مهني مع ارتباط استراتيجي بالدولة وليس بوزير بعينه، من خلال ارتباط المعهد بمجلس أعلى أو مرجعية دولة مثل: مجلس الوزراء، أو مجلس حوكمة وطني للإدارة العامة (2) مجلس إدارة مستقل نسبيا يضم ممثلين عن الحكومة، وخبراء إدارة عامة، وأكاديميين وممارسين مع مدد عضوية ثابتة لا تتغير بتغير الوزراء.
في السياق الأردني، فإن الاستمرار في ربط معهد الإدارة العامة مباشرة بوزير يتغير باستمرار يضعف الاستقرار ويحد من الأثر. وفي المقابل، فإن الاستقلال الكامل دون مظلة دولة قوية قد يعزل المعهد عن مسار التطوير. لذلك، فإن أفضل حل هو نموذج الاستقلال المهني مع ارتباط استراتيجي ثابت بالدولة يضمن: الاستمرارية، والمهنية، والتأثير الحقيقي في إصلاح القطاع العام.
إن معهد الإدارة العامة في الأردن يمتلك مقومات مهمة تؤهله للعب دور محوري في تطوير القطاع العام، غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن في غياب الجهود، بل في تعظيم أثرها لأن الانتقال من منطق “التدريب كغاية” إلى منطق “التطوير كوسيلة للتطوير” هو ما سيحدد موقع المعهد في المرحلة المقبلة. ومع تبني مقاربة أكثر تركيزا على النتائج، وقياس الأثر، وربط التدريب بالتحول المؤسسي، يمكن للمعهد أن يتحول من مركز تدريب حكومي تقليدي إلى رافعة حقيقية لتطوير الإدارة العامة، والمساهمة في ترسيخ أركان دولة أكثر كفاءة وفاعلية.
*رئيس ديوان الخدمة المدنية الأسبق / أمين عام رئاسة الوزراء الأسبق











طباعة
  • المشاهدات: 6659
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
28-12-2025 02:04 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك، هل تنجح إدارة ترامب وحكومة الشرع في القضاء على "داعش" بسوريا؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم