25-12-2025 08:25 AM
بقلم : الكاتب الساخر وليد معابرة
أَمَّا قبل؛ فإِنَّ التاريخ التعليمي العربي سيذكر في يومٍ من الأيام ضمن هامش صفحاته أنَّ الأُستاذ الجامعي الذي ارتكب جرم السعادة والتحق ببعض المؤسَّسات التعليميَّة "الربحيَّة"؛ لم يعد يشعر أَنَّه عقلاً منتجاً للمعرفة، أو ضميراً حيَّاً لنشر العلم وغرس العقائد التربويَّة، أو القيم التعليميَّة، أو الاجتماعيَّة؛ بل تحوَّل –بفعل قرارات بعض التجَّار وأصحاب رؤوس الأَموال- إلى قطعة أثاثٍ مكتبيَّة يحرِّكها صاحب العمل حيثما شاءت حاجته، وتستبدل بغيرها إذا لم تستجب لرغبات أرباب الدكاكين الربحيَّة الذين تبنوا شعاراً رديئاً معاصراً يستخدمونه لقمع المتعلمين: "إذا مش عاجبك؛ بجيب عشرة مكانك"! فالأُستاذ الجامعي الذي يُفترض أنَّه صانع الوعي والمعرفة وحارساً للمنهج التعليمي؛ بات عبداً حديثاً في سوق الاستعمار المعرفي، تقوده إدرات لا تستطيع التفريق بين المؤسَّسات التعليميَّة والمولات التجاريَّة، ولا يهمُّها أن تتعرَّف على التفريق بين الطلبة الجامعيين والزبائن الذين ينتصرون لأنفسهم حين يتراكضون خلف العروض التجاريَّة التي تُنجدهم من دفع ثمن السلعة كاملاً.
إِنَّ أرباب المولات التعليميَّة الذين يتبنُّون ذلك الشعار؛ هم أنفهسم الذين اختصروا فلسفة الإدارة التعليميَّة الجديدة بقرارات تعسفيَّة تشير إلى أنَّه لا حاجة للعقول؛ طالما أنَّ الباب مفتوح، وأنَّه لا قيمة للخبرة؛ طالما أنَّ البطالة تفيض بجُملةٍ كبيرةٍ من حملة الشهادات الذين هم على استعداد تام للعمل "شبه المجاني" مقابل حصولهم على لقب مُحاضر متفرِّغ أو مدِّرس، فقد أنتج أرباب المولات التعليميَّة مفهوماً جديداً لا يقيس الأُستاذ الجامعي بعمقه، بل بمدى خضوعه، فضلاً عن أنَّهم لا يقدِّرون عطاء الأكاديميين ومعرفتهم؛ بل يستغلُّون صمتهم وتجرُّعهم أقداح السلوكيَّات التعليميَّة المسكوت عنها.
وأما بعد؛ فإِنَّ الحقيقة التي يعاني منها بعض الأكاديميين والمدرِّسين أنَّهم لا يملكون أماناً وظيفيَّاً ولا كرامة مؤسَّسيَّة، فهم يتقاضون رواتب شهريَّة لا تكفيهم لشراء بعض المراجع الضروريَّة التي يدرِّسونها للطلبة، وأنَّهم -في بعض الأحيان- يقبلون العمل برواتب لا تتعدَّى قيمتها راتب "عامل مكتب" في مؤسَّسة حكوميَّة؛ ربَّما بسبب ظروف اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة تجبرهم على الرضا بالقليل؛ في حين أنَّ أموال تلك المؤسَّسات تصرف على إنشاء مبانٍ زجاجيَّة جديدة، وبوَّابات اسمنتيَّة دعائيَّة تعرض البرجاوزيَّة التي ينماز بها أصحاب تلك المؤسَّسات؛ من غير الالتفات إلى ما يتغنُّون به من الاعتماد والجودة والتميُّز والتصنيفات العالميَّة "إللي أَكلوا روسنا فيها".
إِنَّ الواقع التعليمي التجاري السائد في الوطن؛ يمثل فيه الأُستاذ الجامعي دوراً يتشابه إلى حدٍّ كبيرٍ مع دور الخطاط الذي يكتب الشهادات؛ فهو يعاني من قراءة بعض الخطوط المكتوبة على ورق المكعبات المليئة بالتوصيات الاجتماعيَّة التي تحثُّه وتجبره على إنجاح الطلبة لإِرضاء الإدارات المحدَّبة؛ التي تفرض عليه أن لا يُقلِق راحتها بأَسئلته النقديَّة أَو الاستنكاريَّة، فالمطلوب أن يُسلِّم للمنهج الاقتصادي حتى لو كان مهترئاً؛ وأنَّه -في حالته تلك- لا يستطيع المساهمة في تطوير التعليم؛ لأَنَّ تطوير التعليم في العادة يحتاج عقلاً حرَّاً؛ والعقل الحرِّ يُعدُّ خطراً تجاريَّاً لا يُرغب به عند بعض الإدارات.
أَمَّا الطالب المسكين؛ فهو في قلب المأساة حتى وإِن كان مستفيداً في الظاهر، فهو من يُمنح شهادة لامعة من غير مضمون، ويزوَّد بدرجات وتقديرات بلا معرفة؛ ليتخرَّج من تلك المؤسَّسة منطلقاً إلى سوق العمل وهو لا يعي شيئاً من تخصُّصه؛ ليكتشف في النهاية أنَّه كان الضحيَّة الأولى لتلك الأَنظمة التي أَفرزت مجموعة من الخريجين المستهلكين والمؤهلين للفشل المؤجل.
إِنَّ السخرية القائمة حاليَّاً تجسد نفسها في أنَّ معظم تلك المؤسَّسات تتحدَّث كثيراً عن الريادة والابتكار؛ في حين أنَّها تُمارس التعليم مقابل الاقتطاع، وإنَّ جُلَّها يتغنَّى بالحريَّة الأكاديميَّة في المؤتمرات؛ في حين أنَّ الحريَّة تُجلد في غرف الاجتماعات المغلقة! فمعظمها تمارس أبشع أنواع الاستغلال وأردأ أشكال المؤسَّسيَّة باسم الاستثمار في التعليم.
إِنَّ الرِّقَّ الأكاديمي والعبوديَّة التربويَّة ليست قضيَّة أساتذة جامعيين ومدرِّسين تربويين فحسب؛ بل إنَّها جريمة بحقِّ المجتمع بأَسره، فحين يُستعبد العقل؛ فإِنَّ الأُمة ستهلَك بلا شك! وحين تتعرَّض المعرفة إلى إهانة؛ فإِنَّ الجهل سيصبح سياسة عامة، فالتعليم -بحدِّ ذاته- لم يكن جانياً في يوم من الأيام، بل كان ضحيَّة دسمة؛ كبرت وترعرعت بين حقول رأس المال وضحيَّة الصمت وتجاوز الممارسات المسكوت عنها .
لا شكَّ أنَّ ما يجري داخل المؤسَّسات التعليميَّة الربحيَّة يُعدُّ وجهاً فاضحاً من وجوه الاتجار بالبشر! وجهٌ استبدلت فيه السلاسل الحديديَّة بعقود إداريَّة هشَّةٍ وجائرة؛ مليئةٍ بالشروط الجزائيَّة (المنطوقة وغير المكتوبة)، فإِذا كُنَّا نؤمن أنَّ زمن الرِّقِّ قد انتهى بتحرير رقبة؛ فإِنَّ ما نشهده اليوم يؤكِّد على أنَّ الرِّقِّ لم ينتهِ ولم يمت، بل إنَّه غيَّر ملابسه وارتدى بدلة رسميَّة و ربطة عنق تليق بالأكاديميَّة التربويَّة، لهذا فإِنَّ المطالبة بإنصاف الأساتذة الجامعيين والمدرِّسين التربويين وإعادة هيبة المعلِّم الحقيقي إِليهم؛ ليست مطلباً نقابيَّاً ولا ترفاً أخلاقيَّاً، بل هي إجراءات تتجسد بـ:
(تحرير رقبة الأُستاذ والمدرِّس من الخوف)!
(وتحرير رقبة المعرفة من الأَسواق التجاريَّة)!
(وتحرير رقبة التعليم من أرباح تُبنى على إذلال البشر)!
وإِنَّني إِذ أُطالب بتحرير تلك الرِّقاب لا بوصفها استعارة لغويَّة، بل لأَنَّها مطلب ينطلق من الواجب الأخلاقي العاجل، فالأُمَّة التي تَستَرِقُّ عقول متعلِّميها؛ لا تحتاج إلى مزيدٍ من الجامعات أو المدارس، بل تحتاج إلى حريَّة أَقلُّ تكلفةً وأكثر شجاعة!
خلاصة القول: إِنَّ توغُّل الأنظمة التجاريَّة وتزامن وجود بعض الأكاديميين الذين يُجيدون فنَّ التزمير والتطبيل لأَرباب العمل والرضا بالقليل؛ لهو أمرٌ يُجبرنا ويحثُّ وزاراتنا المعنيَّة على استنزاف طاقاتها لاستصدار قوانين رادعة تحمي الأُستاذ الجامعي والمدرِّس التربوي من الأنظمة الرأسماليَّة التي يُمارسها بعض أصحاب المؤسَّسات الربحيَّة؛ لإعادة الهيبة الحقيقيَّة للتعليم الجامعي والتعليم المدرسي معاً، أَمَّا إذا بقينا على تلك الحال؛ فإِنَّنا -حتماً- سنكون خير أُمَّةٍ أَخرجت نفسها من قِطار الحضارة وجلست على رصيف التسوَّل المعرفي؛ بل إنَّه سينتهي بنا الأمر إلى أن نصبح حاشيةً في كُتُبِ الآخرين؛ مكتوب في مضمونها: بأنَّنا أُمَّة نامت حتى طمسها الغُبار، وعندما استفاقت؛ سلَكَت خطاً متعرِّجاً؛ فاستقالَت من مهامها وبدأت تحفر قبورها وتخيط أَكفانها للمغادرة الإِجباريَّة والانسحاب من التاريخ.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
25-12-2025 08:25 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||