بقلم :
قدرة الطبقة الفقيرة على تغيير واقعها محكومة بالفشل في غياب صناعة سينما اردنية، وبعد انقطاع طويل تجاوز 15 عاما عن افلام فردية (اخرها فيلم "حكاية شرقية" اخراج نجدة انزور)، تطل علينا شركة (ورقة وقلم) الاردنية بانتاج باكورة افلامها "كابتن ابو الرائد" 2007، كتابة واخراج امين مطالقة، الذي يعرض الان في صالات السينما الاردنية، بعد ان جاب عدة مهرجانات دولية، وحصد جائزة الجمهور لاحسن فيلم اجنبي في مهرجان صندانس الاميركي مطلع العام الحالي، وكذلك جائزة احسن ممثل للفنان نديم صوالحة في مهرجان دبي السينمائي. ابو الرائد (نديم صوالحة) يشتغل كعامل نظافة في المطار... عامل نظافة فقير ماديا، ولكنه ليس بالرجل البسيط نسبة للمعرفة والوعي الذي اكتسبهما من مطالعة الكتب التي تُغني بيته، يجد في احدى النفايات اثناء عمله طاقية كابتن طيار فيأخذها ويرتديها، وفي طريق عودته الى البيت يشاهده طارق (عدي القديسي) احد اطفال الحي، فيظن انه طيار ولا يرغب في تصديق عكس ذلك رغم محاولات ابو الرائد المتكررة للتوضيح بانه ليس طيارا، الا ان الحاح طارق وفتيان الحي عليه بأن يسرد لهم قصص رحلاته، تجعله يداعب هذه الرغبة لديهم بالسفر والمغامرة والمعرفة فراح بعدها يقص عليهم حكايا كابتن ابو الرائد، التي بدورها نسجت بين الطرفين علاقة مودة وصداقة، جعلت من ابو الرائد مطلعا على مشاكل وهموم اطفال حيه الفقراء، محاولا تقديم المساعدة الممكنة لهم بقدر استطاعته. شخصية ابو الرائد شخصية محورية ومؤثرة، فهي العامود الذي تتكئ عليه كل الشخصيات، حيث لم يقتصر الامر على التجاء اطفال الحي الفقراء والمقهورين ليبثوا اليه مشاكلهم وهمومهم، انما يمتد الامر ليشمل نور (رنا سلطان) المنحدرة من اسرة ثرية والتي تعمل كابتن طيار، فتبادر بالتعرف عليه بعد ان لفت ابو الرائد انتباهها، وتنشئ معه علاقة صداقة تجعلها مرتاحة ان تشكو اليه همومها. وكما يبدأ الفيلم كذلك ينتهي ب مراد الكابتن الطيار واقفا امام احدى نوافذ المطار، بعد ان استرجع حكايته (فلاش باك) مع كابتن ابو الرائد الذي ترك اثرا عميقا لا في نفسه وحسب انما في نفس جميع اطفال الحي. نماذج متنوعة من الامور التي تحسب للمخرج ادارته لممثلين اغلبهم من غير محترفين، ولا يمكن تجاوز اداء الممثل نديم صوالحة المتميز والذي جاء هادئا وعفويا بما يليق بشخصية ابو الرائد الحنونة والحكيمة، وتتنوع النماذج التي يطرحها الفيلم من السلبي الى الايجابي، وايجابية ابو الرائد كانت طاغية ومؤثرة والتي من بين ثناياها تطرح تجاوز ثقافة العيب، فامكانات ابو الرائد المعرفية كبيرة لكنه لا يجد ضيرا من ان يشتغل كعامل نظافة في المطار، وكما انه يحفز داخل المشاهد الرغبة في المطالعة والمعرفة من خلال الكتب التي يطالعها. كما يعرض الفيلم نماذج متباينة للمرأة؛ فمن ام مراد (دينا رعد) التي تجسد المرأة المقهورة التي تقابل العنف الذي يمارس عليها بالصمت الى ان يدفعها ابو الرائد لوضع حدا لذلك بهروبها مع واولادها، الى نور المرأة المتعلمة والتي تعمل كابتن طيار وهو المجال المعروف باحتكار الرجال له والتي لا تَسلَم من مضايقات المجتمع والاهل بالضغط عليها بالزواج بعد ان تجاوزت الثلاثين. كما ان هناك عدد من اللقطات الجميلة والموحية، والتي تحمل مستوى اخر من الدلالة كلقطة ابو الرائد على شرفة منزله وفي خلفية الكادر تظهر عمان القديمة، وتلك العلاقة المتبادلة بينهما، ادراج الحي الذي توحي زوايا تصويرها بالمعاناة اللامنتهية... الا انه ما كان للمخرج ان يغفل عن تفصيلة الزي المدرسي لفتيات الحي الفقير، الذي يدل على انهن يذهبن الى مدرسة خاصة، بما يناقض وضع اسرهن المادي. اما الموسيقى التصويرية فهي جميلة ولكنها تبقى غريبة عن روح المكان. الحضن البرجوازي... الطبقة الودودة !! يشكل ابو الرائد نموذج الرجل الطيب والحكيم والمتنور الساعي بقلبه الذي يعمّره الحب والحنان الى حل مشاكل الاخرين- منهم اطفال حيه الفقراء- من اجل تغيير الحياة للافضل حتى لو كلفه ذلك حياته، لكن مساعي ابو الرائد لا تخرج عن طور المبادرة الفردية لحل بعض المظاهر الناتجة عن الفقر، والتي لا تكلل بالنجاح، ولم يحاول كاتب ومخرج الفيلم ان يتناول موضوع الفقر بشكل عميق، فالفيلم يستعرض الفقر دون ان يتعرض لاسبابه، كما يُبقي الطبقة البرجوازية بمنأى عن المسؤولية، لا بل يظهرها كطبقة ودودة فيقترح حلا للمشكلة يعتمد على؛ الصدفة، والحظ، والتصالح الطبقي، وهذا ما يذكرنا بالفيلم المصري "افواه وارانب" اخراج هنري بركات انتاج منتصف سبعينات القرن الماضي – فترة الانفتاح الاقتصادي في مصر- حيث في نهاية الفيلم تحل مشكلة الاسرة الفقيرة بزواج الفتاة نعمت (فاتن حمامة) من الرجل الثري (محمود ياسين) وانتقال اسرتها الفقيرة للعيش معه في العزبة، كذلك في "كابتن ابو الرائد" فبعد فشل محاولات ابو الرائد المتعددة لحل مشاكل بعض الاطفال بما فيها محاولة اللجوء الى الشرطة لردع والد مراد (غاندي الصابر) عن ممارسة العنف على طفله مراد (حسين الصوص)، يلجأ في نهاية المطاف الى الكابتن الطيارة نور (رنا سلطان) المنحدرة من اسرة ثرية لتساعده في ايجاد حل لمشكلة مراد واسرته (امه واخيه) التي لم تسلم من عنف الاب، وبالفعل تنقل نور بمساعدة ابو الرائد الاسرة -خلسة عن الاب- الى منزلها ليسكونوا معهم، ولولا هذا لما تمكن مراد من تحقيق حلمه لاحقا بان يصبح طيارا. نعم ...الفيلم عن ذلك النموذج الطيب الذي يجسده ( كابتن ابو الرائد )، لكن نظرة أعمق للفيلم تُظهر بأن قدرة الطبقة الفقيرة على تغيير واقعها محكومة دائما بالفشل، ليس الا بالالتجاء الى الحضن البرجوازي والتصالح معه كطبقة وحده الكفيل بتغيير الواقع وتحقيق الاحلام. هل يمكن للحل ان يأتي على هذا النحو؟ هل يمكن لصداقة ان تجمع بين الطبقتين كما يبشرنا الفيلم، متمثلة بصداقة كابتن الطائرة نور الثرية وعامل النظافة الفقير ابو الرائد من ثم اسرة مراد؟ لربما هذه العلاقة قابلة للتحقق لكن فقط في الافلام... فعلى ارض الواقع هناك صراع ازلي ومسافة حقيقية تفصل بين الطبقتين. في النهاية وان نختلف في رؤيتنا مع الفيلم، الا اننا سعيدون بعودة الانتاج الاردني الذي نتأمل ان يستمر، لنرى اعمالا جديدة نتفق او نختلف معها، لكن بالضرورة انها تراكم لدينا خبرة ومعرفة.