17-12-2025 04:21 PM
بقلم : الدكتور هاشم الرواشدة
في خضم الاضطراب السياسي والفكري العربي، وفي ظل حالة القطيعة السياسية التي سادت العلاقات الأردنية–المصرية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، نشر الجغرافي المصري الدكتور جمال حمدان عام 1967 مقالتين في مجلة الكاتب المصري تحت عنوان «الأردن دولة: دراسة في الجغرافيا السياسية؟»، وهو عنوان إشكالي ذو دلالة استفهامية–تشكيكية، يعكس طبيعة طرحٍ جدلي يختبر شرعية الكيان الأردني وإمكان استدامته وفق معايير محددة للدولة القومية الحديثة.
وقد جاء هذا الطرح في مناخٍ إقليمي مأزوم أعقب هزيمة حزيران، وألقى بظلاله الثقيلة على الخطاب الفكري والسياسي العربي آنذاك.
وعلى الرغم من المكانة العلمية المرموقة التي يتمتع بها جمال حمدان، وما قدّمه من إسهامات بارزة في ميدان الجغرافيا السياسية، فإن ما تضمّنته هاتان المقالتان من تشكيك في الأردن وكيانه السياسي يظل موضع نقاش علمي مشروع، لا من باب السجال الأيديولوجي أو الدفاع الانفعالي عن كيانٍ بعينه، بل انطلاقاً من ضرورة إعادة قراءة الوقائع التاريخية ضمن سياقها الموضوعي، وضبطها بمنهج علمي متوازن يميّز بين الدراسة العلمية للتاريخ والجغرافيا السياسية وبين الأحكام التي صيغت تحت تأثير ظرف سياسي وإقليمي استثنائي.
أولاً: الأردن ضمن المنظومة التاريخية للمشرق العربي:
لم يكن الأردن، منذ فجر التاريخ، كياناً معزولاً أو طارئاً على الجغرافيا السياسية للمنطقة، بل كان جزءاً عضوياً من منظومة حضارية–جغرافية واحدة عُرفت تاريخياً باسم بلاد الشام، والتي ضمّت أقاليم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن. وهذه الحقيقة ليست استثناءً أردنياً، بل قاعدة عامة تنطبق على مختلف أقاليم المشرق العربي عبر العصور.
فعندما خضعت المنطقة للحضارات الكبرى، كالحضارات الآشورية والبابلية والفارسية، ثم للنفوذ اليوناني والروماني، لم يكن الأردن وحده تابعاً لنفوذ هذه الحضارات، بل خضعت كامل بلاد الشام للسلطة نفسها. ولم يكن هذا الخضوع دليلاً على انعدام التاريخ السياسي أو نفي للهوية الأردنية، وإلا لوجب إنكار التاريخ السياسي لسوريا ولبنان وفلسطين قياساً على المنطق ذاته.
ثانياً: قيام ممالك ودول على أرض الأردن:
على خلاف الادعاء القائل بأن الأردن لم يعرف كياناً سياسياً في تاريخه، شهدت أرضه قيام ممالك واضحة المعالم منذ العصور القديمة (1200ق.م) تقريباً، من أبرزها:
مملكة الأدوميين، مملكة المؤابيين، مملكة العمونيين.
وهي ممالك موثّقة في المصادر التاريخية والنقوش القديمة، وكان لها تنظيمها السياسي وحدود نفوذها. ثم جاءت مملكة الأنباط في القرن الرابع قبل الميلاد، إحدى أبرز الممالك العربية قبل الإسلام، واتخذت من البترا عاصمةً لها، وسيطرت على شبكة تجارية واسعة امتدت من جنوب الجزيرة العربية إلى بلاد الشام.
إن وجود هذه الكيانات ينقض جذرياً مقولة إن الأردن كان أرضاً بلا تاريخ سياسي، ويؤكد أن المنطقة عرفت أشكالاً متعددة من التنظيم والدولة، شأنها شأن بقية أقاليم المشرق.
ثالثاً: الأردن في العصور الإسلامية والوسطى:
مع الفتح الإسلامي، دخل الأردن – بوصفه جزءاً من بلاد الشام – في إطار الدولة الإسلامية سواء الراشدية أو الأموية أو العباسية، ثم تعاقبت عليه نظم الحكم المختلفة، كما هو حال سوريا وفلسطين ولبنان:
النفوذ الصليبي، الذي امتد لنحو خمسة وسبعين عاماً.
الدولة الأيوبية، لنحو ثمانية عقود تقريباً.
سلطنة المماليك، لما يقارب قرنين ونصف ونيِّف.
الدولة العثمانية، لما يقرب من أربعة قرون.
وخلال هذه الحقب الطويلة، لم تكن أقاليم الشام دولاً مستقلة بحدودها السياسية المعاصرة، بل كانت أجزاءً من دول وإمبراطوريات واسعة. ومن ثم فإن استخدام هذا الواقع التاريخي لنفي خصوصية الأردن أو التشكيك في شرعيته السياسية هو قياس انتقائي يفتقر إلى التماسك العلمي.
رابعاً: المشرق العربي في العهد العثماني– كان لايات وليس دول:
من الضروري التأكيد على أن المنطقة العربية في المشرق خلال الفترة العثمانية لم تكن تتألف من دول قومية مستقلة، بل من أقسام إدارية تتبع مباشرة للإمبراطورية العثمانية، وكانت عاصمتها القسطنطينية.
ففي العراق الحالي وُجدت ولايات عثمانية عدة، أبرزها ولاية الموصل، وولاية بغداد، وولاية البصرة. وفي سوريا الحالية كانت ولاية دمشق، كما وُجدت ولاية حلب، ثم لاحقاً ولاية بيروت التي ضمّت أجزاءً من الساحل الشامي. أما جبل لبنان فقد تمتع بوضع إداري خاص تمثّل في متصرفية جبل لبنان.
وفي فلسطين لم تكن هناك دولة مستقلة، بل وحدات إدارية تمثلت في متصرفية القدس الشريف المرتبطة مباشرة بالعاصمة العثمانية، إضافة إلى لواء نابلس ولواء عكّا اللذين ارتبطا إدارياً بولاية صيدا (المعروفة أيضاً بولاية عكّا).
أما في الأردن، فقد كانت هناك وحدات إدارية واضحة تمثلت في لواء البلقاء، ولواء الكرك (متصرفية الكرك لاحقاً)، ولواء معان، وقد ارتبطت هذه الألوية إدارياً في فترات مختلفة الشمالية منها بولاية دمشق والجنوبية بولاية الحجاز، بحسب التنظيم الإداري العثماني.
وجميع هذه التقسيمات الإدارية، على اختلاف تسمياتها وتبعيتها، كانت تخضع في نهاية المطاف لسلطة الدولة العثمانية المركزية، الأمر الذي يؤكد أن غياب الدولة القومية الحديثة كان سمة عامة شملت كامل المشرق العربي، ويجعل أي محاولة لتمييز الأردن سلباً في هذا السياق قراءةً مجتزأة للتاريخ.
خامساً: نشوء الكيانات السياسية الحديثة بعد العثمانيين:
تشكلت الكيانات السياسية الحديثة في المشرق العربي في أعقاب انهيار الدولة العثمانية، ضمن سياق دولي جديد فرضته نتائج الحرب العالمية الأولى واتفاقيات تقاسم النفوذ بين القوى الاستعمارية.
ففي بلاد الشام، قامت الحكومة العربية الفيصلية برئاسة الأمير فيصل بن الحسين خلال الفترة الممتدة من 1918 إلى 1920، واتخذت من دمشق عاصمة لها، وشملت في إطارها الجغرافي والسياسي أقاليم سوريا وفلسطين والأردن الحالية. وفي هذه المرحلة تشكّلت في شرق الأردن أقسام إدارية محلية تولّت إدارتها زعامات وطنية ومحلية، في إطار الارتباط بالحكومة المركزية في دمشق.
غير أن هذه التجربة الوحدوية لم تدم طويلاً، إذ أُجهضت عقب معركة ميسلون عام 1920، التي مهّدت لفرض الانتداب الفرنسي على سوريا. واستمر الانتداب الفرنسي حتى عام 1946، وهو العام الذي نالت فيه سوريا استقلالها الكامل، بعد مسار طويل من النضال السياسي والوطني.
أما لبنان، فقد خضعت بدوره للانتداب الفرنسي، وأُعلن قيام "دولة لبنان الكبير" عام 1920، ثم تطوّر الكيان اللبناني في ظل الانتداب إلى أن نال استقلاله عام 1943، مع جلاء القوات الفرنسية نهائياً عام 1946.
وفي هذا السياق العام نفسه، خضعت سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي، في حين خضع العراق وفلسطين وشرق الأردن للانتداب البريطاني.
وفي هذه الظروف نشأت إمارة شرق الأردن عام 1921، ثم نالت استقلالها عام 1946 لتصبح المملكة الأردنية الهاشمية، وهو مسار لا يختلف في جوهره عن المسارات التي سلكتها بقية دول المشرق العربي.
أما فلسطين، فقد تميّزت حالتها بقيام بريطانيا، خلال فترة انتدابها، بتهيئة الظروف لقيام كيان صه/يوني على حساب الشعب الفلسطيني، استناداً إلى وعد بلفور الصادر في 2 تشرين الثاني 1917، وهو وعد يفتقر إلى أي أساس قانوني أو أخلاقي، إذ منح من لا يملك أرضاً لمن لا يستحقها.
سادساً: مغالطة ربط الدولة بالعاصمة التاريخية:
يستند بعض المشككين إلى كون بغداد عاصمة الدولة العباسية، أو دمشق عاصمة الدولة الأموية، لنفي شرعية دولٍ معاصرة. وهذه حجة تفتقر إلى الدقة المنهجية؛ فكون بغداد عاصمة للخلافة العباسية لا يعني أن حدود تلك الدولة انحصرت في العراق الحالي، كما أن اتخاذ دمشق عاصمة للأمويين لا يعني أن سوريا بحدودها السياسية الراهنة كانت دولة مستقلة آنذاك.
فالدول التاريخية كانت في معظمها دولاً إمبراطورية عابرة للأقاليم، لا دولاً قومية بحدود سياسية مرسومة كما في العصر الحديث.
إن مقولة إن الأردن «لم يكن دولة ذات يوم» تقوم على قراءة مجتزأة للتاريخ، وتتجاهل حقيقة أن جميع دول المشرق العربي الحديثة نشأت في السياق التاريخي ذاته، وبالآليات نفسها، عقب انهيار الدولة العثمانية. وإذا كان هذا المنطق يُستخدم لنفي الأردن كدولة، فإنه – من حيث لا يدري أصحابه – ينفي غيرها من كونها دول أيضاً.
الأردن ليست استثناءً طارئاً في تاريخ المنطقة، بل هي كيان تشكّل ضمن مسار تاريخي وجغرافي واحد، فهي تمتلك عمقاً حضارياً موثقاً، وشرعية سياسية لا تقل عن شرعية أي دولة أخرى نشأت في المشرق العربي في القرن العشرين.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
17-12-2025 04:21 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||