14-12-2025 09:40 AM
بقلم : د. جهاد يونس القديمات
في بداية التسعينات كتبت مقالة في المجلة الجامعية اثناء دراستي الجامعية الأولى، بعنوان: حتى يغيروا ما بأنفسهم، مستلهما موضوعها من الآية الكريمة في سورة الرعد، حيث يقول الله تعالى فيها (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، واليوم أعود لأتأمل اكثر في معانيها العميقة، وتوظيف مضمونها ما استطعت في إدارة الذات والمنظمات.
تشكل هذه الآية الكريمة اطارا لفهم التغيير في بعده الانساني والإداري، فهي لا تخاطب الفرد فقط، بل تخاطب المجتمع والمنظمة، وتضع قاعدة صلبة مفادها ان اي تحول مستدام لا يمكن ان يتحقق بقرارات فوقية، ولا بسياسات معزولة، ولا بشعارات تحفيزية؛ ما لم يسبقه تحول داخلي في الوعي والسلوك ونمط التفكير، وهذا ما يضع الآية في صميم علم الإدارة الحديث لا على هامشه.
ففي الإدارة المعاصرة، لا ينظر للتغيير المنظمي كعملية فنية بحتة، بل كعملية انسانية في المقام الأول، حيث تشير دراسات ادارة التغيير الى ان فشل معظم مشاريع التغيير في المنظمات لا يعود الى ضعف الخطط بل الى مقاومة الأفراد الداخلية للتغيير، وهي مقاومة تنبع من الخوف، ومن القناعات الفردية او الجماعية، ومن الثقافة المنظمية السائدة، وهو ما يعبر عنه القرآن بدقة حين يربط التغيير بما بالنفس قبل اي شيء آخر.
من هذا المنطلق يمكن فهم الآية باعتبارها الأساس الفلسفي لما يعرف اليوم بادارة التغيير Change Management ، حيث تؤكد نماذج مثل نموذج كيرت لوين، ان التغيير يمر بثلاث مراحل، هي فك التجميد ثم احداث التغيير، ثم اعادة التجميد، وان المرحلة الاخطر هي فك التجميد، اي زعزعة القناعات والسلوكيات القديمة، قبل تقديم اي بدائل جديدة، وهذا يتطابق مع جوهر الآية التي تشترط تغيير الداخل قبل تبدل الواقع.
كما ينسجم مضمون الآية مع نموذج جون كوتر لقيادة التغيير، الذي يبدأ بخلق شعور داخلي بالحاجة الى التغيير، ثم بناء رؤية مشتركة، ثم تمكين الأفراد من الفعل، فكل هذه المراحل في جوهرها عمليات داخلية نفسية وسلوكية، قبل ان تكون اجراءات إدارية، وهذا يعزز الفهم الايماني بان التغيير لا يفرض، بل ينشأ من اقتناع داخلي.
في علم الإدارة السلوكية، تؤكد مدرسة العلاقات الإنسانية ان انتاجية الأفراد وفاعلية المنظمات لا ترتبط فقط بالحوافز المادية، بل بالمناخ النفسي، والشعور بالمعنى والانتماء، وقد اثبتت تجارب هاوثورن الشهيرة ان اهتمام الإدارة بالانسان نفسه يؤثر في ادائه اكثر من تغيير الظروف المادية، وهو ما يعيدنا الى الآية التي تجعل النفس مركز التحول. تشكل ادارة الذات اللبنة الاولى في الإدارة الفعالة، حيث تشير نظريات القيادة الحديثة الى ان القائد الذي لا يدير نفسه لا يمكنه ادارة غيره، و يؤكد مفهوم القيادة الذاتية Self Leadership ان الأفراد القادرين على ضبط سلوكهم، وادارة وقتهم وتحفيز انفسهم داخليا، هم الاكثر قدرة على الانجاز والاستمرارية، وهذا يعكس المعنى العملي لقوله تعالى حتى يغيروا ما بأنفسهم.
كما تتقاطع الآية مع نظرية الإدارة بالاهداف Management by Objectives، التي تشترط التزاما داخليا من العاملين لتحقيق الأهداف، لا مجرد فرضها من الأعلى، وقد بينت الدراسات ان الاهداف التي تنسجم مع قيم الأفراد وقناعاتهم، تحقق نتائج افضل بكثير من الاهداف المفروضة قسرا، وهو ما يؤكد ان التغيير الاداري الحقيقي يبدأ من الداخل لا من التعليمات. في مجال ادارة الموارد البشرية تشير ابحاث الالتزام المنظمي الى ان الموظف الملتزم قيميا واخلاقيا بالمنظمة يحقق اداء اعلى من الموظف الملتزم خوفا او مصلحة مؤقتة، وهذا الالتزام لا يمكن صناعته بالانظمة فقط، بل ببناء ثقافة داخلية قائمة على المعنى والعدالة والثقة، وهي كلها مفاهيم تنبع من الداخل قبل ان تنعكس على السلوك.
تؤكد نظرية الثقافة المنظمية التي قدمها ادغار شاين، ان القيم والمعتقدات غير المعلنة داخل المنظمة هي التي تحكم السلوك الفعلي اكثر من السياسات المكتوبة، وهذه القيم هي ما يمكن تسميته اداريا (بما بالنفوس) المنظمية، فالمنظمة لا تتغير بتغيير هيكلها، بل بتغيير ثقافتها. في هذا السياق يظهر التوافق العميق بين الآية ومفهوم التحسين المستمر Kaizen الذي يقوم على التغيير التدريجي المستدام، من خلال التزام الأفراد اليومي بالتطوير الذاتي، وتحمل المسؤولية، وهو منهج اثبت نجاحه في الإدارة اليابانية، حيث يبدأ التغيير من سلوك العامل البسيط، قبل ان يظهر في مؤشرات الأداء.
ان الآية تتقاطع معانيها مع مفاهيم الحوكمة الرشيدة، التي تؤكد ان الفساد الاداري ليس فقط خللا في الانظمة بل خللا في القيم والضمير، وان اصلاح المنظمات لا يتم فقط بالتشريعات، بل بتغيير السلوكيات والاتجاهات، وهو ما يجعل الآية مرجعية اخلاقية لعلم الإدارة العامة. في تأمل آخر، تشير دراسات إدارة الازمات الى ان المنظمات التي تمتلك ثقافة داخلية مرنة، وقادة واعين بذواتهم، تكون اكثر قدرة على التكيف مع الصدمات، وهذا ينسجم مع ما توصل اليه علم النفس الاداري من ان المرونة المنظمية تبدأ بالمرونة النفسية للافراد.
بمعنى آخر تقدم الآية اطارا متوازنا للعلاقة بين الايمان والأداء، فهي لا تعفي الانسان من المسؤولية بدعوى القضاء والقدر، ولا تحمله فوق طاقته، بل تربط النتائج بالسعي الواعي، وهذا يتداخل مع مفهوم المساءلة Accountability في الإدارة الحديثة، التي تقوم على تحمل الفرد مسؤولية قراراته وادائه. في مقاربة أخرى متعلقة في بيئة العمل التي تعاني من الاحتراق الوظيفي، وكما اشرنا الى ذلك في مقالات سابقة، تشير الدراسات الى ان غياب المعنى وضعف الإدارة الذاتية من ابرز اسباب الانهاك النفسي، وتؤكد ابحاث علم النفس المنظمي ان الموظفين الذين يمتلكون وضوحا في رسالتهم الشخصية وقيمهم الداخلية، يكونون اكثر قدرة على الصمود، وهو ما يعيدنا الى مركزية التغيير الداخلي، كما ان القيادة التحويلية Transformational Leadership تقوم اساسا على تغيير وعي الأفراد وتحفيزهم داخليا، وليس فقط توجيههم خارجيا، وقد اثبتت الدراسات ان هذا النمط القيادي يحقق مستويات اعلى من الالتزام والابداع، وهو انعكاس عملي لمضمون الآية على مستوى القيادة.
في النهاية، يمكن القول ان قوله تعالى ان الله (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ليس فقط مبدأ ايمانيا ولا حقيقة نفسية فحسب؛ بل هو ايضا قاعدة ادارية كبرى، تؤكدها النظريات والتجارب المعاصرة، فالتغيير المستدام يبدأ من الداخل، من وعي الفرد ومن ثقافة المنظمة، ومن قيم المجتمع، وعندما يتحقق هذا التغيير الداخلي؛ يصبح الاداء نتيجة طبيعية، ويصبح النجاح أثرا لا هدفا، وتتحول الإدارة من ممارسة تقنية؛ الى رسالة انسانية واعية متجذرة في المعنى والمسؤولية، واختم قولي بأننا نعيش في عالم سريع التغير، لا يعتبر الإدارة في فن السيطرة، بل فن التمكين، ولا يرى النجاح في فرض الأوامر، بل في بناء انسان قادر على ادارة ذاته، والتكيف مع المتغيرات، وهذا هو جوهر الآية القرآنية في التغيير.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
14-12-2025 09:40 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||