13-12-2025 12:59 PM
بقلم : أ. د. مأمون نديم عكروش
الجامعات العريقة حجزت مقاعدها المتقدمة في العالم لأنها لم تعد تتحدث عن أهمية المرتكزات التفليدية التي أدت الى نجاحها مثل التخطيط الإستراتيجي والإعتماد الوطني والدولي وضمان الجودة والبُعد الدولي والبحث العلمي الخلاّق والابداع وتوفر البنية التكنولوجية المتقدمة وخدمة المجتمع والحاكمية المؤسسية الرشيدة وتوفير الموارد المالية والبشرية وغيرها من متطلبات النجاح لإستدامة وديمومة مؤسسات التعليم العالي. هذه المرتكزات أصبحت من الماضي كونها تمثل الحدّ الأدني المطلوب لقيادة أي مؤسسة جامعية وخصوصًا تلك التي قطعت شوطًا طويلُا من النجاح وأصبحت هذه المرتكزات متأصلة في الجامعات المُستقرة والتي نجحت بفضل قياداتها الجامعية وكوادرها المؤهلة والكفوة.
التساؤل الجوهري الذي يطرح نفسه حاليًا في الجامعات العريقة والدول المتقدمة هو: ما هي الجوانب التي يجب أن تركز عليها القيادات الجامعية الإستراتيجية الموهوبة (University Talented Strategic Leadership) من أجل التعامل مع التحديات الحالية وتلك التي تلوح في الأفق حتى عقد الأربعينيات من القرن الحالي؟ حتى يتم الإجابة على هذا التساؤل المهم جدًا يجب البدء بقمة هرم مؤسسات التعليم الجامعي وتحديدًا القيادة الجامعية التي تقود دفة العمل في الجامعة. الأصل أن من يقود الجامعة سواء أكان رئيس (President) او رئيس تنفيذي (Chief Executive Officer) او رئيس الجامعة على النمط الغربي (Provost) او المستشار الأعلى للجامعة (Chancellor) يجب أن يتمتع برؤى إستراتيجية واضحة وقادر على قيادة عملية تغيير جوهرية في الجامعة كون وصفه الأساسي يجب ان يكون قائد التغيير (Change Agent) والخروج من أنموذج العمل المريح (Comfort Business Paradigm)، وخصوصًا الأنموذج الذي حقق النجاح، لانه بعد ذلك يصبح أحد معوقات التغيير والتطوير. هذا يتطلّب وجود تخطيط واضح لتغيير نماذج التفكير الإستراتيجية الحالية المعمول بها في الجامعات (Current Strategic Thinking Paradigms) بحيث تتحول الجامعات من مؤسسات تقدم كفاءات للمجتمع الى مؤسسات تُشكل مُستقبل المجتمع وقيمه (Universities Shape Values & Future). هذا يتطلب البدء بعملية تغيير العقلية (Mindset) والثقافة المؤسسية (Organizational Culture) المطلوبة لتمكين الجامعة من تشكيل القيم المؤسسية ومستقبل المجتمع.
لذلك، مفهوم القيادات الجامعية الموهوبة المطلوبة مستقبلًا لا يعتمد فقط على مفهوم الجامعة الذكية فقط بل يعتمد على توفير المُناخ المؤسسي (Organizational Climate) الملائم والموارد الاستراتيجية النادرة (Scarce Strategic Resources) والقدرات والكفاءات الإستراتيجية المميزة (Distinctive Strategic Capabilities & Competencies) التي تمكّن الجامعة من خلق قيمة مضافة للطالب والخريج والمجتمع لتكون المخرجات على مستوى عالِ من الجاهزية ومحاكاة متطلبات سوق العمل المحلي والإقليمي والعالمي.
فالقيادة الإستراتيجية الجامعية الموهوبة أصبحت ضرورة إستراتيجية (Strategic Necessity) وليس ترفًا حتى تتمكن الجامعة من رسم المستقبل في عالمي الأعمال والتعليم العالي. فالنجاح حتى يكون حليف تلك القيادات الموهوبة يكمن في القدرة على تحديد واضح وجليّ للأولويات الإستراتيجية التي تقود المستقبل وتشكيل القيم المطلوبة لذلك على نحو أفضل. هذه الأولويات الإستراتيجية (Strategic Priorities) تكمن فيما يلي: اولًا، الاستخدام المكثف للذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) وكافة أدواته في عمليات التدريس والتدريب والتحديث والتطوير سواء من قبل قيادة الجامعة أو الطالب أو الخريج أو عضو هيئة التدريس وذلك للانتقال من مرحلة التدريس (Teaching) إلى مرحلة التعلّم (Learning) الممنهجة والمبنية على معلومات وبيانات ضخمة يتم جمعها وتحليلها واستخدامها في عمليات اتخاذ القرار وذلك من أجل خلق قيمة مضافة وإكساب المهارات المطلوبة كنتيجة حتمية لعملية تعلّم ناجحة. وهذا الأمر يتطلب إحلال عقلية" التدريس" بعقلية "التعلّم" وأكساب المهارات (Skills) لأنها الطريقة الرئيسية لتحسين حياة الفرد وفقاً لمتطلبات سوق العمل والتحولات التي تجري في المجتمعات. ثانيًا، تأسيس وتعزيز البُعد الدولي (Internationalization)، من خلال بناء شراكات إستراتيجية (Strategic Partnerships) مع كافة الجهات ذات العلاقة سواء أكانت ناظمة لصناعة التعليم العالي أو شريكة له في سوق العمل. ثالثًا، التركيز على البحث العلمي التطبيقي والنظري الذي يركز على التنمية المستدامة والاقتصاد الدائري والأخضر. رابعًا، التركيز على التحول الرقمي في الجامعات (Digital Transformation) كضرورة إستراتيجية وليس إعتباره جزء من التكنولوجيا الحديثة "المفروضة" على الجامعة بحكم التغيير الذي أصاب بيئة عمل الجامعات! خامسًا، التركيز أن تكون الجامعات مراكز معرفة وقواعد بيانات ضخمة لإنتاج المعرفة الحديثة التي ترتكز على المهارات والقدرات والإمكانيات أكثر من الشهادات! سادسًا، أن تكون الحاكمية المؤسسية تعتمد على الكفاءات المتخصصة والمميّزة المطلوبة والقادرة على الفهم العميق لمتطلبات العمل حسب بيئة كل جامعة وبرامجها التي تميّزها وليس وجود حاكميات مؤسسية تفتقر الى المعرفة والخبرة الواسعة وطنيًا ودوليًا لما يدور في عالم التعليم العالي. إذا لم يتم مراعاة هذا الأمر الهام تصبح الحاكمية المؤسسية أحد أهم المعيقات الإستراتيجية لعمل الجامعة بدلًا من ان تكون داعمة له. وهناك يجب وجود منهجيات واضحة لتقييم الأداء المؤسسي ومختلف مجالس الحاكمية المؤسسية لأغراض المساءلة والمسؤولية (Accountability & Responsibility) حسب الخطط الإستراتيجية التي تم إقرارها. وهنا لا بدّ من التركيز على أمر في غاية الأهمية وهو أن هناك لغه في مجالس الحاكمية المؤسسية في مؤسسات التعليم العالي لا يفهمها الإّ ذوي الخبرة والمعرفة الأكاديمية وأصحاب المؤهلات العلمية والخبرات العملية ذات علاقة بالتعليم العالي وليس الإستعراض في هذه المجالس دون إنجازات تُذكر على أرض الواقع.
سابعًا، تشكيل القيم المؤسسية (Shaping Organizational Values)، القيادات الجامعية الموهوبة مستقبلًا عليها العمل على إعادة تشكيل القيم المجتمعية والمؤسسية بحيث تتناغم وتنسجم مع روح العصر وقيم المجتمع وطموحاته على أن يكون جوهرها "الإنسان" في زمن أصبحت مكانته تتآكل وفقًا لنظرة رأس المال وتهديد وجودة بفعل التطور الهائل الذي نشهده في مجال الذكاء الاصطناعي وأقرب مثال على ذلك (Agentic Artificial Intelligence) الذي أصبح يؤدي العديد من الوظائف. فالجامعات المرموقة في العالم قطعت شوطًا مهمًا في تمكين الإنسان وإعادة تشكيل القيم المؤسسية لتحقيق أهدافها الإستراتيجية. قد يتبادر الى ذهن البعض ان ما ذهبت اليه هو غير واقعي او غير قابل للتطبيق ولكن الحقيقة تقول أن ما ذهبت اليه أصبح موجودًا في الجامعات العريقة والمطلوب منّا اللحاق بركب التطور الإنساني والتكنولوجي الفعلي قبل فوات الأوان.
ولا بدّ من الإشارة الى أن النجاح يكمن أيضًا في القدرة على تنفيذ المرتكزات أعلاه على أرض الواقع بروح مُنفتحة وعصرية وعقلية تؤمن بأن التغيير هو سمة العصر وان الجامعات يجب ان تقود المستقبل بكفاءة وإقتدار. إن قيادة الجامعات لمستقبل أفضل يشكّل أعلى درجات الوطنية الحقيقية التي تنبُع من العمل الصادق المُخلص الذي يُجسد الإيمان العميق بالوطن والعمل المستمر على توفير حياة أفضل للأجيال الحالية والقادمة بإذن الله تعالى.
الأردن يستحق الأفضل دوماً بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين وولي عهد الأمين حفظهم الله ورعاهم.
أدام الله عزّك يا وطني.
*هذا المقال يعبر عن وجهة نظر شخصية.
الأستاذ الدكتور مأمون نديم عكروش
الجامعة الألمانية الأردنية*
السبت: 13/12/2025
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-12-2025 12:59 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||