07-12-2025 08:32 AM
بقلم : م. صلاح طه عبيدات
يطرح الإنسان، منذ بدايات وعيه، سؤال الحقيقة: هل تتعدد كما تتعدد الألسنة والأعراق، أم أنها واحدة وإن اختلفت طرق التعبير عنها؟ وفي مركز هذا السؤال يتجلّى مفهوم الدين، لا بوصفه طقسًا تاريخيًا أو هوية اجتماعية، بل بوصفه علاقة وجودية بين الإنسان والمطلق.
يقرّر القرآن الكريم تقريرًا حاسمًا:
﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ﴾،
وهذه الآية لا تطرح الإسلام كاسم ديني فقط، بل كحقيقة كونية شاملة، تعني في جوهرها: الاستسلام الحرّ لله وحده. هنا يتحول الإسلام من إطار عقائدي إلى موقف وجودي شامل، يُعيد تعريف الإنسان من كائن متمرّد على المعنى، إلى كائن منسجم مع أصل الغاية.
أولًا: الإسلام بوصفه حالة الوعي العليا
لغويًا، الإسلام هو الانقياد، لكنه فلسفيًا هو أرقى أشكال الحرية. فالإنسان حين يستسلم لله، لا يستسلم لسلطة محدودة، بل يتحرر من كل السلطات الزائفة: سلطة المال، والهوى، والخوف، والمجتمع، والتاريخ.
إنه تحرر عبر الطاعة، لا الطاعة عبر القهر.
ومن هنا نفهم أن الإسلام لا يبدأ بمحمد ﷺ فقط، بل يبدأ مع آدم، ويمتد مع نوح، ويتجلى مع إبراهيم، ويتكرر مع موسى وعيسى، ويُختم تشريعيًا برسول الله ﷺ. والجامع المشترك بينهم جميعًا ليس الاسم، بل جوهر التوحيد.
ثانيًا: استحالة تعدد الدين منطقيًا
من زاوية فلسفية خالصة، إن تعدد الأديان في الجوهر يتناقض مع مبدأ وحدانية الحق.
فالحق لا يتعدد، ولو تعدد لسقطت عنه صفة الإطلاق.
والله بوصفه المطلق الواحد، لا يمكن أن يكون له أكثر من طريق متناقض في الجوهر، لأن التناقض يعني النقص، والنقص يستحيل على المطلق.
إن ما نسميه “أديانًا سماوية متعددة” هو في الحقيقة مراحل تاريخية لرسالة واحدة، تتلون بلغة القوم، وثقافتهم، ووعيهم الزمني، لكنها تحمل همًّا واحدًا:
> عبادة الله وحده، وتحرير الإنسان من عبودية الإنسان.
ثالثًا: خطأ التسمية وعقدة الانتماء
حين سمّى البشر الديانات بأسماء الأقوام (اليهود)، أو الأشخاص (المسيحية)، كانوا – دون أن يشعروا – ينقلون الدين من فضائه الكوني إلى حيّز الانتماء الضيق.
فصار الإنسان ينتمي للاسم قبل أن ينتمي للمعنى، ويدافع عن اللافتة قبل أن يحيا الحقيقة.
ولهذا جاء التصحيح القرآني حاسمًا:
﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا﴾.
إبراهيم لم يكن تابعًا لعنوان، بل تابعًا للحق. لم يكن ابن مذهب، بل ابن فطرة نقية.
كان “مسلمًا” قبل أن يُولد أي اسم ديني متداول.
رابعًا: الفطرة والدين قبل التاريخ
الإسلام – بمعناه الوجودي – أقدم من كل الشرائع، لأنه متجذر في الفطرة. فالإنسان يولد وهو يحمل استعداد التوحيد، والاستجابة للمطلق، والبحث عن معنى أعلى من ذاته.
لكن حين يتغلب التاريخ على الفطرة، وتتحول العقيدة إلى هوية صراعية، يبدأ الدين بفقدان جوهره لصالح شكله.
وهنا تظهر المفارقة الكبرى:
كثيرون يدافعون عن الله بسلوك لا يشبه الله.
وكثيرون يرفعون راية الدين وهم أول من يناقض مقاصده.
خامسًا: الإسلام بوصفه ميزانًا لا طرفًا
حين نفهم الإسلام كحقيقة كلية، لا كهوية مغلقة، ندرك أنه ليس طرفًا في صراع، بل ميزانًا يُوزن به كل صراع.
ليس مشروع هيمنة، بل مشروع هداية.
ليس دعوة للإقصاء، بل نداء للعودة إلى الأصل.
فالاختلاف بين البشر سنة كونية، لكن التوحيد هو قدر الحقيقة.
والتعدد في الثقافات رحمة، لكن التعدد في الإله استحالة.
إن أخطر ما أصاب الدين عبر التاريخ، هو اختزاله في الانتماء بدل الوعي، وفي الطقس بدل المعنى، وفي الصراع بدل الهداية.
بينما حقيقته الأسمى أنه: أن يعيش الإنسان لله لا ضد الإنسان،
وأن يسجد للحق لا للأهواء،
وأن يفهم أن الإسلام ليس بطاقة تعريف، بل طريقة وجود.
تبقى الحقيقة ناصعة وهي أن كل الرسالات كانت إسلامًا،
وكل الأنبياء كانوا مسلمين،
وكل إنسان لا يكون حرًا إلا حين يكون عبدًا لله وحده.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
07-12-2025 08:32 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||