03-12-2025 02:57 PM
بقلم : د. جهاد يونس القديمات
يمر سوق العمل الأردني بمرحلة دقيقة تستوجب إعادة التفكير في أسلوب التعامل مع ملف البطالة وآليات إيجاد فرص العمل، فالأرقام الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة تشير إلى أن معدل البطالة في الربع الأول من عام 2025 بلغ 21.3%، منخفضا بشكل طفيف عن 21.4% في الفترة نفسها من عام 2024، لكنه ما يزال مرتفعا ويشكل تحديا حقيقيا، هذه النسبة تعني عمليا أن واحدا من كل خمسة أفراد قادرين على العمل، او يبحث عن وظيفة ولا يجدها، مما يضع عبئا اجتماعيا واقتصاديا يتجاوز قدرة التوظيف على استيعابه، في الوقت نفسه، تظهر بيانات البنك المركزي أن النمو الاقتصادي الحقيقي يدور حول 2.5% – 2.7% خلال السنوات القليلة الماضية، وهي نسب غير كافية لخلق فرص عمل واسعة مقارنة بحجم الداخلين الجدد إلى سوق العمل سنويا.
هذه المرحلة الحساسة تجعل الحديث عن خياري التوظيف والتشغيل ضرورة ملحة، لا مجرد نقاش نظري، بهدف التخفيف من حدة البطالة واثارهما الاقتصادية الاجتماعية والنفسية، فبينما يسعى عشرات الآلاف سنويا لدخول سوق العمل عبر الوظائف التقليدية، تبدو قدرة الاقتصاد الوطني على استيعابهم محدودة بسبب بطء النمو وضعف الاستثمار ومحدودية الموارد، هذا الواقع الذي يشكل قلقا كبيرا لاصحاب القرار، ويفرض إعادة تقييم النظرة إلى فرص التوظيف، وفهم الفارق بين البحث عن وظيفة جاهزة وبين خلق وظيفة جديدة عبر المشاريع الصغيرة والمتوسطة والريادة والعمل الذاتي.
يجدر التفريق هنا بين مفهومين يتم استخدامها على نطاق واسع قي سوق العمل، فالتوظيف Staffing يعني إدماج الأفراد في وظائف موجودة في شركات او مؤسسات عامة، حيث يكون دور الدولة والقطاع الخاص محصور في توفير فرص العمل عبر نمو النشاط الاقتصادي وزيادة الاستثمار، أما التشغيل Employment فمفهومه أوسع‘ حيث يشمل خلق فرص عمل جديدة من خلال مشاريع صغيرة ومتوسطة، وتشغيل ذاتي عبر العمل الحر، والمبادرات الريادية التي تولد طلبا على اليد العاملة، بعبارة أخرى التوظيف يعتمد على خلق فرص عبر النمو التقليدي، بينما التشغيل يعتمد على تنويع المصادر وخلق أنشطة اقتصادية جديدة.
الواقع الاقتصادي القائم يجعل خيار التوظيف أي البحث عن وظيفة لدى القطاعين العام أو الخاص حلا محدود القدرة، فالقطاع العام وصل إلى مرحلة شبه تشبع، وبات يعتمد على الإحلال الوظيفي أكثر من التوسع، في حين أن القطاع الخاص يواجه بدوره تحديات تتعلق بالكلف التشغيلية، والضرائب، وعدم التأكد، ومحدودية النمو. فالشركات كما تظهر التقارير الرسمية، حذرة في التوسع الوظيفي، فلا تضيف شواغر إلا عند الضرورة القصوى، وهذا يتوافق مع منطق إدارة الأعمال الذي يسعى إلى تقليل المصروفات وتخفيف المخاطر، خصوصا في ظل ظروف اقتصادية إقليمية غير مستقرة.
على الرغم من الجهود الحكومية لتعزيز الاستثمار وجذب الشركات الأجنبية، فإن قدرة هذه الشركات على خلق وظائف واسعة خلال فترة قصيرة ليست كبيرة، فالاستثمار الخارجي غالبا ما يتجه نحو قطاعات رأسمالية أكثر من كونها ذات مثافة عمالية، مثل الطاقة والبنية التحتية والخدمات المالية، وهي قطاعات تساهم في النمو الكلي لكنها لا توفر وظائف كافية، ومع هذه المحدودية، يصبح الاعتماد على التوظيف وحده كحل لأزمة البطالة أمرا غير واقعي، لاستيعاب العمالة الوطنية.
في مقابل هذا الواقع، يبرز دور المشاريع الصغيرة والمتوسطة SMEs وما يصاحبها من تشغيل ذاتي وريادة، كرافعة رئيسية لامتصاص البطالة، وفق تقارير حديثة، تشكل المشاريع المصغرة والصغيرة والمتوسطة نحو 99.5% من مجمل مؤسسات القطاع الخاص في الأردن، ومن هذه المؤسسات يعمل حوالي 560 ألف عامل، أي نحو 57.6٪ من إجمالي القوى العاملة، و 71٪ من القوى العاملة في القطاع الخاص، وفي بعض التقديرات، تساهم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بما يقارب 60٪ من العمالة في القطاع الخاص، وهذا الواقع يجعل من التشغيل في عبر المشاريع الصغيرة والمتوسطة حلا عمليا لمعالجة آفة البطالة، فالمشاريع الصغيرة لا تحتاج رأس مال ضخم، ويمكن أن تنشأ في مختلف محافظات المملكة، ما يعني توزيع فرص التشغيل بشكل أوسع وأشمل، كما أن تنوع نشاطات هذه المشاريع (صناعة، تجارة، خدمات، حرف، اقتصاد رقمي…) يعطي مرونة في الاستجابة لاحتياجات السوق المحلية، لكن هذا الحل يتطلب بيئة داعمة، وهنا يأتي دور الحكومة في تحفيز الاستثمار في SMEs عبر تسهيلات إدارية، وتسهيل إجراءات التسجيل، وتقديم حوافز ضريبية، ودعم مالي أو منح صغرى، وتمويل ميسر، وتطوير مهارات الشباب والخريجين لتتناسب مع متطلبات المشاريع الصغيرة والريادية، لا أن تبقى النظرة محصورة في الوظائف التقليدية. ان التعليم التقني، والتدريب المهني، ودعم ريادة الأعمال، التوجيه المهني، كلها أدوات أساسية لتحويل الخريجين من باحثين عن وظيفة إلى خلق وظيفة.
أما القطاع الخاص، فإنه جزء لا يتجزأ من معادلة التشغيل، وعليه أن يدرك أن دعم المشاريع الصغيرة ليس فقط مسؤولية اجتماعية، بل استراتيجية اقتصادية، من خلال دمج المشاريع الصغيرة في سلاسل القيمة، شراء إنتاج محلي، وإشراكهم كموردين أو شركاء، هذا التوجه سيخلق طلبا داخليا ثابتا ويمنح المشاريع الصغيرة فرصة للاستمرار والتوسع. إلى جانب ذلك، تلعب المؤسسات الدولية دورا بارزا في تعزيز ثقافة التشغيل، فهناك برامج شراكة مع الاتحاد الأوروبي، وجهات مانحة تمول تدريب الشباب في مجالات مثل البرمجة، والخدمات الرقمية، والطاقة المتجددة، والزراعة الذكية، والسياحة المتخصصة، هذه القطاعات تعتبر بين الأسرع نموا عالميا، وتستطيع توفير آلاف الوظائف إذا ما تم تطويرها محليا بشكل منظم.
من جانب الشباب والخريجين، المطلوب تغيير نظرة (أريد وظيفة ثابتة!) فقط، والاستعداد للمخاطرة والعمل الحر، أو دخول مشاريع صغيرة، فالديناميكية الاقتصادية اليوم لا تسمح بأن يكون العمل دائما ضمن مؤسسات حكومية او شركات كبيرة، فالشباب الماهر خاصة من لديه مهارات تقنية أو خدمة أو حرفية، بإمكانه عبر مشروع صغير أو عمل حر أن يؤمن دخل، وفي كثير من الحالات أكثر من وظيفة تقليدية، لكن هذا يتطلب ثقافة ريادية، انضباط وتخطيط، ومساعدة فنية أو لوجستية من أصحاب الخبرة.
وأخيرا، يمكن القول ان الأولوية اليوم ليست اختيار التوظيف أم التشغيل كحكم نهائي، بل الدمج الذكي بينهما، التوظيف المباشر مهم في القطاعات المستقرة، لكنه غير كاف بمفرده في ظل محدودية الموارد والاستثمار، اما التشغيل عبر ريادة الأعمال والمشاريع الصغيرة هو القاطرة الأسرع لامتصاص البطالة وتوسيع الاقتصاد المحلي، شريطة أن تدعمها سياسة عامة مدروسة، وشراكة حقيقية بين القطاعين والمؤسسات الدولية، فالأردن يمتلك رأس المال البشري والإمكانات؛ وما يحتاجه هو موارد مخصصة للتنمية، وخارطة طريق واضحة وقابلة للتطبيق، وإرادة وطنية لصناعة الفرص بدلا من انتظارها.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
03-12-2025 02:57 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||