حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الخميس ,4 ديسمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 4545

الدكتور محمود الحبيس يكتب: رفع سنّ التقاعد… حين تتكلّم الأرقام ويسقطُ الوهم

الدكتور محمود الحبيس يكتب: رفع سنّ التقاعد… حين تتكلّم الأرقام ويسقطُ الوهم

الدكتور محمود الحبيس يكتب: رفع سنّ التقاعد… حين تتكلّم الأرقام ويسقطُ الوهم

03-12-2025 08:54 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. محمود الحبيس
في عالمٍ يتغيّر بوتيرة تفوق قدرة الإنسان على الاستيعاب، لم يعد ممكنًا التعامل مع الأسئلة المصيرية بالإنكار أو التأجيل. ومن بين هذه الأسئلة يبرز سؤالٌ يلامس تفاصيل كل بيت ويطرق أبواب كل أسرة: لماذا تتجه الدول إلى رفع سنّ التقاعد؟ سؤالٌ يبدو بسيطًا في مظهره، لكنه في جوهره ملف عميق تتقاطع فيه اعتبارات الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والديموغرافيا، ويلتقي عنده مستقبل الفرد بقدرة الدولة على الاستمرار.

لقد تبدّل العالم، وتغيّرت معه معادلات العمر والعمل، وأصبحت إدارة سنوات الخدمة ليست مجرد أرقام تُحصى، بل سياسة وطنية تعيد هندسة علاقة الإنسان بسنوات عطائه. فالتقاعد لم يعد قرارًا انفعاليًا أو هدية تُمنح، بل حقًّا راسخًا يعكس سنوات من الجهد، ويستوجب منظومة دقيقة تحفظ للإنسان كرامته وتضمن للدولة قدرتها على الوفاء بالتزاماتها.

ولأن العمر الصحّي للإنسان ارتفع عالميًا إلى مستويات غير مسبوقة، فقد أعادت الدول النظر في أنظمتها التقاعدية. وقد تجاوز متوسط العمر العالمي 73.5 سنة، وارتفع لدى النساء إلى 76.2 سنة، ولدى الرجال إلى 70.9 سنة، فيما بلغ في الأردن 74.3 سنة وفق بيانات 2025. وهو رقم لا يمكن تجاهله عند تصميم سياسات التقاعد، لأن الإنسان يعيش أطول، ويحتاج حماية أطول، بينما صناديق التقاعد ليست خزائن بلا قاع. ولهذا رفعت دول كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا سنّ التقاعد إلى 67 عامًا، والمغرب إلى 65 عامًا، إدراكًا لخطورة تجاهل الحقائق السكانية.

قد يبدو خفض سنّ التقاعد قرارًا لطيفًا ومحبّبًا للجمهور، لكنه في عمقه استنزاف خطير. فهو يزيد عدد المتقاعدين بشكل لا يتناسب مع قدرة الصندوق التقاعدي على الدفع، ويُضعف الإيرادات ويرفع النفقات، ويعزّز الكسل الوظيفي حين يشعر الموظف بأن العدّ التنازلي قد بدأ. كما يؤدي إلى اتساع الفقر بين كبار السن، ويهدد منظومة الضمان الاجتماعي بأكملها. والوهم بأن زيادة المتقاعدين تفتح أبواب التوظيف للشباب يتهاوى أمام الواقع، إذ لا تُعبّئ المؤسسات الحكومية معظم الشواغر، والوظائف تُخلق بالنمو الاقتصادي والاستثمارات المولدة لفرص العمل لا بالتقاعد.
الاعتقاد ان مزيدا من المتقاعدين يخلق فرصا توظيفية هو رأي خاطىء اذ ان القطاع العام بحاجة اكثر .

وفي خضم هذه الحقائق، برزت رؤية رئيس الوزراء –استنادًا إلى خلفيته الاقتصادية العميقة– بوصفها قراءة واقعية بعيدة عن المجاملات. فقد لمس بوضوح الأثر المالي الخطير الذي ترتّب على تخفيض سنّ التقاعد في الأعوام الماضية، ورصد انعكاساته على التوازنات المالية العامة، وعلى قدرة الضمان الاجتماعي على الصمود. لم يتعامل مع التقاعد بوصفه مطلبًا شعبويًا يصلح للاستهلاك اللحظي، بل بوصفه قرارًا ترتبط به استدامة الدولة، وهو ما جعل التراجع عن سياسات خفض السن خطوة ضرورية لحماية النظام التقاعدي ومنع انزلاقه نحو أزمة صامتة. لقد كانت تلك الرؤية محاولة صادقة لوقف نزيف غير مرئي، قبل أن يصبح مرئيًا… ومكلفًا.

وقد شهدت المؤسسات حالات من التراخي الوظيفي لسنوات، حيث ينتظر بعض الموظفين تاريخ التقاعد لا أكثر، فتغيب الإنتاجية وتتراجع الفاعلية وتضعف روح المبادرة. إن استمرار الموظف الكفوء في موقعه، مع تقييم أداء عادل، يضمن بقاء الخبرة وحيوية المؤسسة وفاعلية الذراع الإدارية للدولة.

إن رفع سنّ التقاعد ليس قرارًا لإزعاج أحد، بل ضرورة لحماية الجميع. فدولة تواجه الحقيقة أقوى من دولة تساير المزاج العام، والتقاعد ليس مخرجًا للهروب بل محطة استحقاق تُبنى على العدالة والاستدامة. حماية المواطن لا تكون باستنزاف الصناديق التقاعدية ، بل ببنائها على أسس قوية تحفظ الحاضر وتؤمّن المستقبل.

حفظ الله الأردن وأدامه قويًّا عزيزًا.











طباعة
  • المشاهدات: 4545
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
03-12-2025 08:54 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل يرضخ نتنياهو لضغوط ترامب بشأن إقامة دولة فلسطينية؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم