19-11-2025 01:15 PM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
في زحمة الحياة وتسارع الأحداث، يجد الإنسان نفسه أحيانًا كمن يقف على شاطئ متلاطم الأمواج، حائرًا بين الماضي الذي مضى، والمستقبل الذي لا يعلم موعده، والحاضر الذي يحيط به ويطالب قراراته. في هذه اللحظة الحرجة، تأتي الآية الكريمة لتكون مرشدًا ونورًا، تهدي العقل، وتواسي القلب، وتثبت النفس على الحق، فتكشف المعنى العميق للصبر، وتؤكد وعد الله الحق، وتحذر من ضياع الإنسان بين تقلبات الآخرين.
الصبر الذي تأمر به الآية ليس صبر الضعفاء أو المستكينين، بل هو صبر العاقل البصير، الذي يزن الأمور بميزان الحكمة، ويعرف أن لكل حدث وقته ومقداره. هذا الصبر يجعل الإنسان ثابتًا وسط الفوضى، كالجبل الذي لا تزلزله الرياح، وكالبحر العميق الذي تهزه الأمواج على سطحه دون أن تخل بعمقه. إنه صبر الرؤية، وصبر القرار، وصبر ضبط النفس، الذي يرفع الإنسان فوق الانفعال والجزع، ويمنحه القدرة على مواجهة الحياة بتوازن وثبات.
ثم يأتي وعد الله الحق، وهو السند المطلق للإنسان في الحياة. فهو يمنح قلبه اليقين بأن ما وعد الله به واقع لا محالة، وأن لكل مجتهد نصيبًا، ولكل ابتلاء غاية، ولكل دمعة أجرًا، ولكل انتظار نهاية. من عرف وعد الله وعاش به، صار يرى المستقبل بنور اليقين، فلا تزعزعه الصعاب، ولا تلهيه التحديات، ولا يربكه من لا يملكون بصيرة. هذا اليقين يغذي النفس بالطمأنينة، ويقوّي الإرادة على الثبات، ويجعل الإنسان يرى الأحداث كاختبارات تنمي قدرته على السمو والتحمل.
وأما التحذير من الذين لا يوقنون، فهو السور الذي يحيط بالقلب من فوضى الخارج، ومن الانجرار وراء تقلبات غير المستقرين. هؤلاء الذين يزول يقينهم كزوال الرمل تحت أقدام الريح، والذين يبدلون آرائهم حسب كل موقف، ويخافون بلا سبب، وينتابهم القلق من أبسط الأمور. فالإنسان الحكيم لا يترك هؤلاء يتحكمون بردود أفعاله، ولا يسمح لهم بأن يشوشوا على توازنه النفسي، لأنه يعرف أن استخفافهم ليس إلا صوتًا فارغًا لا قيمة له أمام يقين وعد الله، ولا ينبغي أن يدخل قلبه إلا بحذر شديد.
تتجلى هنا الحكمة العميقة للآية في ثلاثة عناصر متسلسلة: صبر النفس، ويقين الوعد، وحصانة القلب من اضطراب الخارج. وكل من جمع بين هذه العناصر صار إنسانًا متزنًا، ثابتًا في حياته، قادرًا على التعامل مع الأحداث بوعي ونضج، ومطمئنًا قلبه، وعقله حادّ البصيرة، وروحه متحررة من الخوف والاضطراب. فالإنسان الذي يعيش بهذا النظام الثلاثي، يمضي في حياته كمن يمشي في صحراء مضيئة، لا تهزه العواصف، ولا تضطهده الرياح، لأنه يعلم أن وعد الله حق، وصبره سبيله، وحصانة قلبه درعه الحصين.
هذه الآية الكريمة تقدم درسًا شاملًا يجمع بين التربية النفسية، والحكمة الواقعية، والتوجيه الروحي، لتصنع الإنسان الذي يثق بالوعد الإلهي، يصبر على قدره، ويحصّن قلبه من فوضى الآخرين، ويعيش حياته بعقل ناضج، وروح مطمئنة، ونفس مستقرة، متحررة من كل ما قد يضطرب به عقله أو يثقل قلبه.
إن التأمل في هذه الآية ليس مجرد قراءة عابرة، بل منهج حياة متكامل، وبوصلة لمن يريد أن يسير في دروب الحياة بثبات ووعي، وأن يبني شخصيته على أساس صبرٍ راسخ، ويقينٍ متين، وحصانةٍ حقيقية من كل ما يزعزع الإنسان. فليكن قلبك هذا السور، وروحك هذا اليقين، وعقلك هذا الميزان، ولتكن حياتك رحلة نحو السلام الداخلي والطمأنينة الحقيقية، مستنيرًا بآية تحمل لكل مؤمن رسالة الخلود الروحي والاستقرار النفسي وسط تقلبات الحياة.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-11-2025 01:15 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||