18-11-2025 10:16 AM
بقلم : د.عبدالله سرور الزعبي
لم تعد منطقة الشرق الأوسط ساحة صراعات محلية أو تناقضات أيديولوجية عابرة، او قضية إنسانية، ولم تعد ساحة نجومٍ منفردين، بل حلبة توازنات يقودها تلاقي مصالح دول عظمى وإقليمية ومحلية.
وتحولت إلى مسرح تنافس دولي مفتوح بين واشنطن وموسكو وبكين، يعتبر الأخطر منذ قرن. وأصبح السؤال المركزي، من يرسم مستقبل المنطقة؟ هذه العقدة الجيوسياسية لممرات الطاقة والتجارة والأمن العالمي، واختبارًا للمواقف العربية، ومن يحدد مصير غزة والضفة والدولة الفلسطينية، ومهمة امتحان للسياسات الداخلية الإسرائيلية، بل ومعادلات القوة في المنطقة كلها؟
ان اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في غزة، لم يكن مجرد خطوة لوقف النزيف الإنساني، بل جاء كجزء من معركة أوسع لإعادة صياغة قواعد اللعبة. فالاتفاق، وإن بدا إنسانيًا في ظاهره، إلا أنه يعكس رغبة أمريكية في تهدئة الساحة لتخفيف الضغط الدولي على إسرائيل، واستعادة زمام المبادرة سياسيًا، ومحاولة إسرائيلية لشراء الوقت بعد الفشل في تحقيق أهدافها الاستراتيجية المعلن عنها، وسعي إقليمي لاحتواء الانفجار الأكبر الذي كان سيجرّ المنطقة إلى مواجهة شاملة.
ومع ذلك، يبقى واضحًا أن وقف النار لا يعني نهاية الحرب، بل بداية معركة رسم مستقبل القطاع والضفة والكيان الفلسطيني، لا بل المنطقة بكاملها.
الخطة الأمريكية المقدمة كمشروع قرار لمجلس الأمن تحمل بين سطورها مشروعًا لإعادة ترتيب القطاع. ويمكن تلخيص جوهرها في وقف فوري للأعمال القتالية متبوعًا بفصل زمني واضح للانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، وهيئة انتقالية متعددة الأطراف، واسعة الصلاحيات لإدارة غزة لفترة مؤقتة (اقتُرِح أن تكون مدتها سنتين مع احتمال التجديد)، طابعها تكنوقراطي، ويستبعد مشاركة حماس في الإدارة السياسية المباشرة، وقوة دولية لحماية الاستقرار، تحت مظلة قرار أممي لتأمين المناطق الحيوية وإيصال المساعدات، وإطار لإعادة إدماج المؤسسات الأساسية، وإطلاق مشاريع استثمارية مفترضة لتحسين الوضع الاقتصادي، مع تفاهمات لعدم مشاركة القوات الأميركية مباشرة، وإعادة إعمار شاملة مشروطة بترتيبات أمنية صارمة تمنع عودة المقاومة إلى الحكم، ودمج السلطة الفلسطينية وتعديلها بحيث تُعاد هندسة بنيتها الأمنية والسياسية، بإشراف دولي، ومسار تفاوضي مؤجَّل نحو حل الدولتين دون التزام واضح بجدول زمني أو اعتراف نهائي، وعزل حركة حماس سياسيًا.
هذه الرؤية تحاول أن تحول غزة من ساحة حرب إلى مشروع إدارة دولية، يعيد الإعمار سريعًا، لكن ثمنها السياسي ثقيل، حيث تُبقي كل المفاتيح الحقيقية بيد واشنطن وتل ابيب، وتترك للفلسطينيين هامشًا ضيقًا للحركة، وتفتح الباب لسيناريوهات قد تُبقي الصراع مفتوحًا بطرق أخرى.
اليوم، بات مطروحاً بديل اخر امام مجلس الامن، وهي الخطة الروسية، والتي جاءت كرد مباشر على الهيمنة الأمريكية على ملف غزة، وبالتالي على المنطقة بأكملها، من وجهة نظر موسكو. وهي تقوم على مبادئ مختلفة جذريًا، من حيث وقف شامل وفوري لإطلاق النار دون شروط مسبقة، وتكليف الأمين العام بتقديم خيارات لتشكيل قوة دولية متعددة الأطراف تحت رقابة أممية، وبدون ذكر صريح لهيئة انتقالية يهيمن عليها طرف بعينه، ورفض أي مبدأ قد يُفسَّر كفرض حلول أحادية الجانب، وهي محاولة لاستبعاد أي بنود تمنح سيطرة للولايات المتحدة أو تمنح تفويضًا طويل الأمد لقوى خارجية محددة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، ورفض أي ترتيبات أمنية تمنح إسرائيل حق الفيتو، واطلاق مسار تفاوضي دولي بضمانات أممية وليس أمريكية فقط.
باختصار، مقترح موسكو قد يؤجِّل الخيار الأمريكي-القيادي، ويُقترح بديلاً، يمنح الأمم المتحدة وأصحاب مصلحة إقليميين دورًا استشاريًا أو قياديًا محدودًا بدل التفويض الأحادي. التحرك الروسي، مؤشر على محاولة موسكو استعادة وزنها كوسيط إقليمي وعدم ترك الساحة كاملة للنفوذ الأميركي.
من الواضح بان الفرق بين الخطتين متباين لدرجة كبية، فأمريكا تريد شرق أوسط قابلًا للضبط والسيطرة، بينما روسيا وبدعم صيني، تدفع نحو شرق أوسط متعدد القوى، يحدّ من النفوذ الأمريكي ويعيد تشكيل التوازنات العالمية.
والسؤال أي من المشروعين سيجد طريقاً للتنفيذ، ام اننا سنشهد شللاً اممياً لاتخاذ القرار، فواشنطن تضغط من أجل اعتماد نص سريع لتفادي انهيار وقف النار والفراغ الإداري، وموسكو تحاول تعطيل أو تعديل النص بما يضمن عودة دور الأمم المتحدة وعمق التمثيل الإقليمي. النتيجة حتى الآن، تباين امتدادات التصويت وإمكانية تعطيل مشاريع القرار، الا اننا ننتظر نتائج ما يدور خلف الكواليس، والتي قد تضفي الى تفاهمات على مشروع مشترك، وهوما سنرى نتائجه خلال أيام معدودة.
لكن الواقع المرير يشير الى ان مستقبل غزة والضفة والدولة الفلسطينية، يراوح بين التدويل والتقسيم وإعادة الهيكلة. الا ان الحقيقة الصادمة هي أن مستقبل القضية الفلسطينية أصبح مرتبطًا بثلاثة سيناريوهات مركزية، التدويل الكامل لإدارة غزة خاصة عبر قوة أممية أو تحالف دولي عربي وغربي، وهو السيناريو الأقرب للتطبيق على المدى القصير، وإعادة هندسة الضفة الغربية لإعادة بناء السلطة، وتمكينها أمنيًا واقتصاديًا، مقابل منح إسرائيل ترتيبات أمنية واسعة، وحل الدولتين (المُخفّف)، وليس الحل المعروف في الأدبيات السياسية، بل نسخة جديدة مشروطة بإعادة تعريف شكل الدولة الفلسطينية، وترسيم حدود مؤقتة، وقد تشمل تبادل أراضٍ، وترتيبات أمنية طويلة الأمد.
في نفس الوقت، نلاحظ تراجع الخطاب الرسمي الإسرائيلي العلني حول التهجير، إلا أنّ قطاعات واسعة داخل اليمين الإسرائيلي ما تزال تعتبر التهجير، هو الحل النهائي للمشكلة الديموغرافية، وان الانقسام الداخلي الإسرائيلي يجعل هذه الفكرة هدّامة لكنها حاضرة في العمق السياسي، والانتقال الى سيناريوهات النقل الطوعي، وتامين الممرات الآمنة، أو الهجرة الاقتصادية، وهو ما قد يكون تم الاتفاق عليه في الغرف المغلقة. وبمعنى أدق، لم تعد خطة التهجير مشروعًا جاهزًا، لكنها أيضًا لم تُدفن نهائيًا.
كما انه من المعتقد ان البريق الإعلامي تلاشى مؤقتاً في ظل الفوضى الداخلية الإسرائيلية، والانقسام الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي، هو الأخطر منذ قيام الدولة. من حيث أزمة ثقة تتزايد بين الجيش والقيادة السياسية، وانقسام بين معسكرَيْ الحسم والتسوية حول مستقبل غزة، وضغط نفسي واجتماعي واقتصادي نتيجة الحرب، وتبعات الحرب امام المحاكم الدولية، ومستويات المسؤولية، وتآكل صورة إسرائيل كقوة قادرة على فرض إرادتها العسكرية.
هذا الانقسام يجعل إسرائيل غير قادرة وحدها على رسم مستقبل غزة، ويدفعها للاعتماد على التخطيط الأمريكي بدرجة غير مسبوقة. ما يزيد من غموض المشهد اللقاء الذي جمع الريس السوري الشرع مع الرئيس الأمريكي ترامب، والذي اثار الكثير من التساؤلات، هل هناك صفقة أم بوابة إعادة ترتيب للشرق الأوسط؟
هذا اللقاء، بملابساته السياسية والرمزية، أعاد تشكيل النقاش حول موقع سوريا في الخريطة الجديدة. فالولايات المتحدة تدرك أن أي ترتيبات طويلة المدى في الشرق الأوسط لن تنجح دون سوريا، وان كبح النفوذ الإيراني لا يمكن أن يمر دون التفاهم مع دمشق، والملف السوري قد يصبح جزءًا من صفقة إقليمية كبرى تشمل غزة ولبنان والعراق وربما إيران نفسها.
اللقاء لم يكن حدثًا بروتوكولياً، بل إشارة إلى بدء إعادة إدماج سوريا تدريجيًا في الحسابات الأمريكية لتوازنات المنطقة.
الأردن، المدافع عن الثوابت ويحاول إنقاذ الإقليم، يتحرك بقيادة الملك على عدة مسارات، منها رفض قاطع للتهجير أو التغيير الديموغرافي، وتمسك ثابت بحل الدولتين، والوصاية الهاشمية على المقدسات، ويقود تحرك دبلوماسي واسع في واشنطن، وأوروبا، وشرق اسيا، والعالم العربي، والأمم المتحدة، ويمارس ضغط سياسي لإدخال البعد الإنساني والأمني للأردن في أي ترتيبات تخص غزة والضفة، والعمل على حماية الداخل الأردني من آثار الحرب سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا.
فالأردن، بقيادة الملك، ليس متفرجاً، بل لاعب أساسي يحاول منع انهيار الإقليم ومنع ولادة ترتيبات تتجاوز مصالحه الحيوية.
ان ما يجري اليوم ليس مجرد صراع على غزة أو الضفة، بل عملية إعادة تشكيل كامل لهوية الشرق الأوسط، من حيث من يحكم غزة؟ ومن يحدد مستقبل الضفة؟، وما مصير العلاقة الإسرائيلية – الفلسطينية؟ وما هو دور الأردن ومصر وقطر والسعودية والامارات وإيران وتركيا؟، وأين تقف روسيا والصين وأمريكا من العواصف جيواستراتيجية وجيوسياسية في الشرق الأوسط؟، وهو يعاد رسمه، ويتجه نحو مرحلة جديدة، يعاد فيها توزيع القوة، وصعود قوى إقليمية جديدة، ولكن ليس على طاولة واحدة؟
ان رسم مستقبل المنطقة عمليًا يعتمد على ثلاث قدرات متداخلة، النفوذ السياسي (القدرة على بناء أغلبية في المؤسسات الدولية)، والقدرة العسكرية والتحكم الأمني، والقدرة الاقتصادية (تمويل إعادة الإعمار والشرعية الاقتصادية). فالمعركة ليست بين الخُطّتين الامريكية والروسية فحسب، بل بين نمطين للحكم، نمط إدارة خارجية مؤقتة، ونمط تعددية أممية، تفضّله موسكو وبكين.
إن الدولة أو الجهة التي ستنجح في الجمع بين الشرعية الفلسطينية، والتوافق العربي، والقدرة الدولية على التمويل والضمان الأمني ستكون ــ عمليًا ــ من يرسم مستقبل غزة وتأثيراتها على الضفة، ومن ثم مستقبل المنطقة والامن العالمي.
حتى يتحقق هذا المزيج، يبقى المشهد هشًا ومفتوحًا على سيناريوهات قد تعيد إشعال الصراع أو تضع قواعد لعبة جديدة طويلة الأمد.
اللاعب الفعلي الذي سيكتب الفصل القادم هو من يجمع بين شرعية داخلية فلسطينية، وغطاء عربي إقليمي، ودعم دولي كافٍ لتمويل وحماية أي حل، وهذه الثلاثية غير محققة بشكل كامل لدى طرف واحد حتى الآن.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
18-11-2025 10:16 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||