حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الإثنين ,27 أكتوبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 3497

جهاد المنسي يكتب: القبيبة .. الذاكرة التي لا تُحتل

جهاد المنسي يكتب: القبيبة .. الذاكرة التي لا تُحتل

جهاد المنسي يكتب: القبيبة ..  الذاكرة التي لا تُحتل

27-10-2025 08:24 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : جهاد المنسي
القبيبة التي احتلها الصهاينة في مثل هذه الأيام قبل 77 عاما؛ ليست مجرد اسمٍ على خريطة غابت عن الجغرافيا منذ عام 1948، بل جرح مفتوح على الذاكرة، وقريةٌ حملت وجع فلسطين كلّها بين حجارتها وأزقتها وبيوتها التي كانت يوماً عامرة بالضحك والحياة.


القبيبة.. تلك البلدة الوادعة التي تتبع قضاء الخليل في فلسطين المحتلة جارة الدوايمة وبيت جبرين، تلك البلدة لم تكن هامشاً في التاريخ، بل قلبًا من قلوب الجنوب الفلسطيني، بكرومه وآباره التي لم تجف إلا يوم دخلها الغزاة، فحوّلوا الينابيع إلى رماد، والبيوت إلى صمتٍ بارد يغطيه غبار الاحتلال.
في القبيبة، كما في كل قرى فلسطين السليبة، كانت الحكاية وادعة وبسيطة؛ فلاحٌ يزرع، وامرأة تخبز على التنور، وأطفال يركضون بين الكروم وأشجار التين والزيتون وعند السهول، ثم جاء عام 1948، عام السلب الكبير، حين دخلت العصابات الصهيونية القرية، تحرق وتنهب وتقتلع الناس من جذورهم.
الاحتلال لم يكن يبحث عن أرضٍ فقط، بل عن ذاكرةٍ ليحتلها، أراد أن يسرق التاريخ قبل أن يسرق الجغرافيا، ويقتل الرواية قبل أن يهدم البيوت؛ أراد تغيير السردية التي لا يمكن تغييبها أبدا.
ما لم يدركه المحتل، أن القبيبة - كما كل فلسطين- لا تُسكن بالحجارة فقط، بل بالوجدان، فحين هجّر أهل القرية وتفرّقوا بين مدينة الخليل والأردن ومخيمات الشتات حملوا معهم رائحة بيوتهم، واحتفظوا بمفاتيح أبواب عقودهم التي أُغلقت قسرًا، وورّثوا أبناءهم وصيةً تقول: لا تنسوا… فالأرض تعرف أصحابها؛ والحق لا يضيع وإن طال الزمن؛ والجزائر قاومت المحتل مئات السنين ومن ثم أخرجتهم.
رغم مرور ما يقرب من تسعة عقود، لم تسقط القبيبة التي احتلت من قبل عصابات الهاغانا في مثل هذه الأيام من عام ١٩٤٨ من الذاكرة؛ فأبناؤها في الأردن وفي كل مكان، يحيونها في تفاصيل حياتهم اليومية؛ في لهجتهم التي ما زالت رائحة الجنوب تهب فيها وفي كسر القافية، وفي أعراسهم تُذكر أسماء أحيائها القديمة، وفي بيوتهم صور لآثار القرية لتمنحهم معنى البقاء.
الأبناء ورثوا من آبائهم أن هناك في المنطقة الغربية الجنوبية من الخليل وعلى بعد ما يقرب من 25 إلى 30 كم تقع بلدتهم السليبة، وهم يؤمنون أن الحق لا بد أن يعود وإن طال الزمن؛ أولئك يفخرون بأردنيتهم دون نسيان بلدتهم؛ فالاحتلال الذي ظن أنه قادر على محو القرية من الوجود؛ فشل في محوها من القلوب؛ فكل حجر مهدوم صار شاهدا، وكل زيتونة اقتُلعت نبتت في الذاكرة ألف مرة.
القبيبة اليوم هي الدليل الحي على أن الاحتلال لا يستطيع أن ينتصر على الذاكرة، لأن الذاكرة لا تقصف ولا تُحاصر؛ فقد حاول الاحتلال تغيير أسماء القرى، وحرث الأرض بحثًا عن آثارٍ يهودية تُبرر جريمته، لكنه وجد أن التاريخ الفلسطيني لا يمكن طمسه.
ففي القبيبة، كما في دير ياسين ويافا وعكا والناصرة واللد والرملة والفلوجة، كل حجرٍ ينطق بالعربية، وكل حجر يروي الحكاية ذاتها بأن هذه الأرض لم تكن يوما خالية، بل كانت مليئة بالحياة، وبالناس الذين أحبّوها حتى الرمق الأخير.
أبناء القبيبة في الأردن لن ينسوا، ولم يتصالحوا مع الغياب؛ بنوا بيوتهم الجديدة، وشاركوا في بناء وطنهم الأردن، لكنهم لم يغلقوا دفاتر الذاكرة؛ يرفعون صور البلدة القديمة، يرددون بيارات بلدتهم، وكأنهم يتفقدون الطريق نحوها، والعودة بالنسبة لهم ليست شعارا سياسيا، بل وعدا شخصيا، وعد الآباء لأبنائهم أن اللقاء قادم، مهما طال الزمن، لأن الأرض تعرف أبناءها ولا تخونهم.
ولأن العودة حقٌّ لا يسقط بالتقادم، فإن القبيبة ستظل عنوان هذا الحق؛ فهي ليست أطلالًا في الذاكرة، بل دليل على أن العدالة المؤجلة ما تزال حيّة، تنتظر لحظة انكشاف الغيم عن الأرض التي لا تموت.











طباعة
  • المشاهدات: 3497
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
27-10-2025 08:24 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل تنجح "إسرائيل" بنزع سلاح حماس كما توعد نتنياهو رغم اتفاق وقف الحرب بغزة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم