26-10-2025 02:36 PM
بقلم : م. صلاح طه عبيدات
لم يكن الملك يخاطب مجلس الأمة فحسب في خطاب العرش السامي، بل كان يخاطب جوهر الدولة الأردنية في عمقها الإنساني والسياسي والأخلاقي. لم تكن الكلمات مجرد افتتاحٍ لدورة برلمانية جديدة، بل كانت استدعاءً متجدداً لروح المسؤولية التي تُمتحن بها الأمم حين تقف على مفترق الطرق بين الجمود والتجدد، بين التراخي والنهضة.
جاء الخطاب كنبضٍ عاقلٍ في زمنٍ مضطرب، يحمل في جوفه حكمة الدولة العميقة، ويدعو إلى أن يتحول القول إلى فعل، والنوايا إلى سياسات واقعية تحفظ كرامة المواطن وتصون هيبة الدولة. فالمُلك في فلسفة الهاشميين ليس سلطةً تتعالى، بل رسالةٌ تتجسد في رعاية الإنسان، وفي تحويل مؤسسات الدولة إلى جسورٍ للعدالة والكرامة والفرص.
لقد وضع جلالة الملك أمام مجلس الأمة مرآةً صافية يرى فيها ذاته الحقيقية: أن يكون ضمير الوطن، لا ساحةً للصراع اللفظي أو الحسابات الضيقة. فالمجلس، كما أراده الخطاب، هو عقل الأمة الجمعي، يشرّع بالوعي لا بالعاطفة، ويراقب بحسٍّ وطني لا بتكتيكٍ سياسي. التشريع في فلسفة الدولة ليس تمريناً لغوياً، بل بناءٌ أخلاقيٌّ يصوغ علاقة المواطن بالدولة، ويرسم حدود العدالة والمساءلة والشفافية.
أما الحكومة، فقد حمّلها الخطاب مسؤولية أن تكون التجسيد العملي للرؤية الملكية، لا مجرد جهازٍ إداريٍ مكرور. فالفعل الحكومي لا يُقاس بعدد القرارات، بل بمدى قدرته على تحويل الثقة إلى إنجاز، والتحدي إلى فرصة. الحكومة التي لا تعمل بعقلٍ إصلاحيٍّ وروحٍ خادمة تفقد جوهر وجودها، لأن الخدمة العامة في الرؤية الملكية هي جوهر المواطنة لا امتياز المنصب.
في جوهر الخطاب، كان هناك نداءٌ صامت يتجاوز القاعات والبيانات، موجَّه إلى الضمير الوطني في كل مسؤولٍ ومواطنٍ على حدٍّ سواء: أن الإصلاح ليس مشروعاً حكومياً، ولا مطلباً سياسياً فحسب، بل هو فعلُ وعيٍ جماعيٍّ، يبدأ من صدق النية وينتهي بتجسيد الكلمة في الواقع.
إن خطاب العرش في هذه اللحظة التاريخية بدا أشبه بميزانٍ يُعيد ضبط اتجاهات الدولة، مؤكداً أن الاستقرار الحقيقي لا يولد من الصمت، بل من الحوار، ولا يُصان بالقوة، بل بالعدل، ولا يُبنى بالولاء الأعمى، بل بالولاء الواعي الذي يرى في النقد حباً، وفي المشاركة واجباً، وفي المسؤولية شرفاً.
ذلك هو نداء العرش حين يتجلى: دعوةٌ إلى أن يستعيد مجلس الأمة دوره كضميرٍ ناطقٍ بالحكمة، وأن تنهض الحكومة بعقلٍ إصلاحيٍّ وضميرٍ وطنيٍّ حي، وأن يبقى الوطن هو البوصلة التي لا تخطئ الاتجاه، مهما تعاظمت العواصف وتبدلت الأزمنة.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-10-2025 02:36 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||