حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الأحد ,26 أكتوبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 3868

د. أيمن الخزاعلة يكتب: الذاكرة لا تغرق: الأطفال رحلوا .. والمسؤول ما زال طافيًا فوق المنصب

د. أيمن الخزاعلة يكتب: الذاكرة لا تغرق: الأطفال رحلوا .. والمسؤول ما زال طافيًا فوق المنصب

د. أيمن الخزاعلة يكتب: الذاكرة لا تغرق: الأطفال رحلوا ..  والمسؤول ما زال طافيًا فوق المنصب

25-10-2025 04:00 PM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د.م أيمن الخزاعلة
سبعُ سنواتٍ انقضت على فاجعة البحر الميت، حين ابتلع الطين والماء أطفالًا خرجوا في رحلةٍ مدرسيةٍ كان يفترض أن تكون يومًا للفرح، فتحوّلت إلى مأتمٍ وطنيٍّ شاهِدٍ على استهتارٍ إداريٍّ لا يُغتفر. سبعُ سنواتٍ تغيّرت فيها الحكومات وتبدّلت الوجوه، لكن الكراسي بقيت كما هي، ومنظومة المحاسبة ظلّت جامدةً كأنها خارج التاريخ، وكأنّ دماء الأبرياء لا تكفي لتهزّ كرسيًا أو توقظ ضميرًا غافلًا.


التحقيقات يومها اكتفت بعباراتٍ باهتة عن “ظروفٍ استثنائية” و“عوامل خارجةٍ عن السيطرة”، وكأنّ الفاجعة من صنع الطبيعة لا من صُنع الإهمال. غير أنّ ما خرج عن السيطرة حقًّا لم يكن الطقس، بل الضمير الإداري الذي غرق في بيروقراطية الأعذار. التنظيم كان عبثيًا، والتحذير غائبًا، والرحلة تحوّلت إلى نموذجٍ مصغّر لمنظومةٍ تربويةٍ تفتقر إلى الحوكمة والجاهزية، حيث تتوزع المسؤولية بطريقةٍ تضمن ألّا يُحاسَب أحد.
كانت الرحلة وعدًا بالتعلّم، فانتهت درسًا بالموت. لم يكن القدر هو القاتل، بل عجزُ التخطيط وغفلةُ الرقابة وتراخيُ القرار. ومع ذلك، كان الصمت الرسمي أكثر فداحةً من الفاجعة نفسها؛ بياناتٌ باهتة وتصريحاتٌ مطاطية، وكأنّ الحادث جزءٌ من روتينٍ إداريٍّ يوميّ. انتهى التحقيق، ودُفنت المساءلة مع الأطفال، فيما ظلّت المناصب تسبح فوق الماء.
أيُّ معنى للتربية حين يُمنَح من أخفق في حماية الطلبة شرف الحديث باسم التعليم؟ وأيُّ درسٍ أخلاقي يمكن تلقينه بعد أن خذلت المؤسسات أبناءها في أبسط حقوقهم: الحق في الحياة؟ إنّ المسؤولية لا تُقاس بالقوانين ولا تُختزل في استقالاتٍ شكلية، بل تُجسَّد في موقفٍ أخلاقيٍّ يليق بحجم الفاجعة، يقول صاحبه “أنا المسؤول”. لم يكن المطلوب تضخيم الألم، بل تحويله إلى وعيٍ مؤسسيٍّ يعيد تعريف مفهوم المسؤولية العامة. فالمحاسبة ليست انتقامًا، بل أساس الثقة بين المواطن والدولة، والاعتراف بالخطأ ليس ضعفًا بل نضجٌ سياسيٌّ وأخلاقيّ. لكننا كالعادة اخترنا الصمت، فكافأنا الفشل بالاستمرار، وتركنا الكرامة تغرق دون وداع.
الزمن لا يُرمّم الكرامة، والصمت لا يغسل الدم. وما حدث في البحر الميت لم يكن حادثًا عابرًا، بل زلزالًا أخلاقيًا كشف هشاشة الإدارة وغياب الضمير العام. لم يكن الأطفال أرقامًا في سجل، بل أمانةً خانها من ظنّ أن المنصب درعٌ لا يُخترق. لقد غرق الضمير قبل الجسد، وطفا العجز على السطح كعلامةٍ على موت العدالة.
كانت فاجعة البحر الميت صفعةً على وجه الوطن، تذكّرنا أن حياة أبنائنا ليست بندًا في تقريرٍ ولا رقمًا في بيان. سبع سنواتٍ مضت، وما زالت الذاكرة ترفض الغرق. نحن لا نطلب انتقامًا، بل عدالةً تُعيد للضمير هيبته وللمسؤولية معناها. فكم من مرةٍ سنسمع “القضاء قال كلمته” قبل أن يقول الضمير كلمته؟
ما حدث لم يكن قدرًا، بل نتيجةٌ حتميةٌ لفسادٍ إداريٍّ متراكمٍ وجبنٍ في الاعتراف. الضمير الوطني لا يحتاج إلى لجان تحقيق، بل إلى شجاعةٍ في النظر في المرآة. فكلُّ منصبٍ يُمنَح بعد الفاجعة دون مساءلةٍ هو خيانةٌ ثانيةٌ لدماء الصغار.
التاريخ لا ينسى، والبحر الميت ما زال يحتفظ بأسرار اليوم الذي غرقنا فيه جميعًا — لا في الماء، بل في صمتنا.











طباعة
  • المشاهدات: 3868
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
25-10-2025 04:00 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
برأيك.. هل تنجح "إسرائيل" بنزع سلاح حماس كما توعد نتنياهو رغم اتفاق وقف الحرب بغزة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم