19-10-2025 09:00 AM
بقلم : أ.د غازي الرقيبات
في كل دولةٍ تحترم ذاتها وتقرأ المستقبل بعين الوعي، تُولد مؤسساتٌ لا تُقاس أهميتها بحجم أبنيتها أو أرقام ميزانياتها، بل بمقدار ما تُحدثه من أثرٍ في حياة شعوبها، ومؤسسة الضمان الاجتماعي في الأردن هي واحدة من تلك المؤسسات التي تشكّل العمود الفقري للأمان الاجتماعي، والدرع الواقية التي تحرس المواطن من تقلبات الزمن، وتختزن في فلسفتها معنى الدولة حين تُمارس مسؤوليتها الأخلاقية قبل الإدارية، فليست المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي مجرد جهازٍ بيروقراطي يُصدر الأنظمة ويُحصي الاشتراكات، بل هي — في جوهرها — ضميرٌ وطنيٌّ حيّ، يتجسد فيه مبدأ التكافل الاجتماعي في أسمى صوره، إنها الجسر الذي يربط الماضي بالمستقبل، حيث يعمل جيل اليوم ليؤمّن غدًا كريمًا لجيل الغد، وبذلك تبقى العلاقة بين المواطن والدولة قائمة على الثقة لا على الصدفة، غير أنّ هذا الكيان الكبير، بكل رمزيته وعمقه الاجتماعي، يواجه اليوم تحديًا إداريًا عميقًا يتعلق بتعدّد مجالس الحاكمية التي تُدير شؤونه: مجلس إدارة المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، مجلس التأمينات، مجلس إدارة صندوق استثمار أموال الضمان، وموقع المدير العام، تعددٌ ظاهره التنظيم، وباطنه التكرار، حيث تتقاطع الصلاحيات وتتوزع المسؤوليات، فتضيع البوصلة أحيانًا بين مرجعيةٍ وأخرى، وتتداخل دوائر القرار حتى يصبح المسار المؤسسي كمن يسير في غابةٍ كثيفة لا يرى فيها الضوء إلا متقطعًا.
إنّ الإدارة في فلسفتها الأعمق ليست تعددًا في المقاعد، بل وحدةٌ في الرؤية؛ وليست ازدحامًا في التواقيع، بل انسجامًا في الاتجاه، فكما أنّ النهر يفقد قوته إذا تشعبت مجاريه، فإنّ المؤسسة تفقد فاعليتها إذا توزعت مرجعياتها وتداخلت أذرعها، ومن هنا تأتي الدعوة إلى توحيد مجالس الحاكمية الأربع في مجلس إدارةٍ واحدٍ مركزيٍّ، لا بوصفها مطلبًا إداريًا فحسب، بل كضرورةٍ فكرية تمسّ جوهر فلسفة الدولة الحديثة، التي تُؤمن بأنّ كفاءة المؤسسات لا تُبنى بكثرة الهياكل، بل بوضوح المسؤوليات وتكامل الأدوار، فالمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي، بما تحمله من أبعاد اقتصادية واجتماعية، هي كالعصب الذي يربط بين الجسد الوطني كله؛ فإذا ضعف أداؤها أو تباطأ قرارها، ارتبك الأداء العام المالي، لذلك فإنّ إعادة تنظيم حاكميتها لتصبح تحت مظلةٍ واحدةٍ، تُوحّد الرؤية وتُحدّد الجهة المسؤولة، ليست مجرد إصلاح هيكلي، بل هي عملية إنعاش استراتيجي تعيد إلى المؤسسة روحها الأولى، وتُعيد إلى القرار المؤسسي صفاءه، إنّ في هذا الدمج المقترح ما يحقق غاياتٍ ثلاثًا كبرى:أولها اقتصاد النفقات من خلال إزالة الازدواجية وتبسيط خطوط العمل، وثانيها ترسيخ مبدأ الحوكمة والمساءلة عبر تحديد مرجعية واحدة مسؤولة أمام الجهات الرقابية، وثالثها تعزيز كفاءة القرار وسرعة التنفيذ بما ينسجم مع حجم التحديات الوطنية، وهذا التوجه لا ينفصل عن نهج دولة رئيس الوزراء الأكرم في التحديث والتطوير، حيث تُبنى السياسات العامة على رؤيةٍ إصلاحيةٍ متجددة، تنظر إلى المؤسسات بوصفها كائناتٍ حية يجب أن تتطور لتبقى قادرة على الاستجابة لمتطلبات العصر، فالإصلاح في جوهره ليس هدمًا لما هو قائم، بل ارتقاءٌ به إلى مستوى أعلى من الفاعلية والوضوح والمسؤولية، إنّ توحيد مجالس الحاكمية في مؤسسة الضمان الاجتماعي هو خطوة في مسارٍ أوسع لبناء دولةٍ حديثةٍ تستمد قوتها من وحدة قرارها، وعدالة إدارتها، ونقاء نيتها تجاه المواطن، وما أحوجنا، في هذه المرحلة التي تتسارع فيها المتغيرات، إلى إدارةٍ أكثر وعيًا بذاتها، تُدرك أن بقاء المؤسسات ليس بالجمود، بل بالقدرة على التكيّف، وأنّ الضمان الاجتماعي ليس مجرد صندوقٍ مالي، بل عهدٌ وطنيٌّ أخلاقيٌّ بين الدولة وأبنائها.
وفي نهاية المطاف، تبقى المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي بتوحيد بوصلة إدارتها أشبه بشجرةٍ أصلها في الأرض وفرعها في السماء؛ تُمدّ جذورها في المجتمع، وتُظلّ الأجيال بثمارها، فإذا حُسن ريّها بالحوكمة الرشيدة والإدارة الواعية، أثمرت أمنًا اجتماعيًا واقتصاديًا، وصارت كما أرادها الآباء المؤسسون حارسًا صامتًا للوطن، لا يُرى إلا في لحظة الحاجة، ولا يُنسى في ذاكرة الإنصاف.
أ.د غازي عبدالمجيد الرقيبات
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
19-10-2025 09:00 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |