22-09-2025 12:22 PM
بقلم : أ. د. ليث كمال نصراوين
أدانت الحكومة الأردنية بشدة قرار حكومة دولة "فيجي" فتح سفارة لها في مدينة القدس المحتلة، مؤكدة أن هذا الإجراء باطل ويُشكّل مخالفة جسيمة للمواثيق الدولية التي تحظر استخدام القوة لتغيير الوضع القانوني لهذه المدينة، وهو الوضع الذي كرّسته العديد من القرارات الأممية. فقد نص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 1947 (خطة التقسيم) على أن "تُقام في منطقة القدس نظام دولي خاص وتوضع تحت وصاية الأمم المتحدة". ومنذ ذلك الحين لم يعترف المجتمع الدولي بأي سيادة أحادية على هذه المدينة المحتلة، الأمر الذي يجعل مسارعة بعض الدول إلى نقل سفاراتها إليها خرقًا واضحًا للقانون الدولي.
وبعد احتلال إسرائيل للقدس الشرقية عام 1967، صدر قرار مجلس الأمن رقم (242) ليؤكد على مبدأ عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وهو ما أكدته المادة (2/4) من ميثاق الأمم المتحدة التي نصت على أن "يمتنع جميع الأعضاء في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة". ومع إعلان إسرائيل عام 1980 أن "القدس عاصمة موحدة وأبدية"، أصدر مجلس الأمن قراره رقم (478) الذي اعتبر الإعلان باطلاً وانتهاكًا صريحًا للقانون الدولي، وأكد أن جميع الإجراءات التشريعية والإدارية التي اتخذتها إسرائيل لتغيير طابع المدينة منعدمة الأثر القانوني، داعيًا الدول الأعضاء إلى سحب بعثاتها الدبلوماسية من القدس.
وقد استند مجلس الأمن في قراره هذا إلى اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، التي تنص في المادة (47) منها على أن "الأشخاص المحميين الذين يوجدون في إقليم محتل لا يحرمون، بأية حال أو بأية كيفية كانت، من الانتفاع بأحكام هذه الاتفاقية، سواء نتيجة لأي تغيير يطرأ بسبب احتلال الإقليم، أو ضمه، أو نتيجة لأي اتفاق يبرم بين سلطات الإقليم المحتل وسلطات دولة الاحتلال".
وهذا النص يضع قاعدة آمرة تقضي بأن أي محاولة ضم أو تغيير في وضع الأراضي المحتلة لا يؤثر في وضعها القانوني، ولا يلغي الحماية المقررة لسكانها. وعليه، فإن فتح سفارة في القدس يشكل انتهاكًا مزدوجًا: أولًا لالتزام الدولة المعنية بعدم الاعتراف بالضم الإسرائيلي، وثانيًا للالتزام الجماعي بضمان احترام القانون الدولي الإنساني فيما يخص مدينة القدس.
كما عززت محكمة العدل الدولية هذا المبدأ في أكثر من رأي استشاري. ففي قضية ناميبيا عام 1971، أكدت المحكمة أن على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة "الامتناع عن الاعتراف بشرعية أي وضع أنشأته جنوب إفريقيا في ناميبيا"، والامتناع عن أي علاقات قد توحي بمثل هذا الاعتراف. ثم أعادت المحكمة التأكيد على هذا المبدأ في رأيها الاستشاري بشأن الجدار العازل بفلسطين عام 2004، حيث شددت على أن جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بالوضع غير المشروع الناشئ عن بناء الجدار وعدم تقديم المساعدة في الإبقاء على هذا الوضع. وبالقياس، فإن فتح سفارة في القدس لا يعد فقط اعترافًا غير مشروع بالسيادة الإسرائيلية المفروضة بالقوة، بل مشاركة مباشرة في تكريس واقع غير قانوني، بما يخالف القانون الدولي العرفي واتفاقيات جنيف.
ورغم وضوح هذه الأحكام، أقدمت بعض الدول على نقل سفاراتها إلى القدس، كان آخرها "فيجي"، متجاهلة قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 2017 الذي نص على أن "أي قرارات أو إجراءات تهدف إلى تغيير طابع القدس أو وضعها أو تركيبتها السكانية ليس لها أي أثر قانوني ويجب إلغاؤها"، فضلًا عن قرار مجلس الأمن رقم (2334) لسنة 2016 الذي أكد على عدم الاعتراف بأي تغييرات في حدود الرابع من حزيران 1967، بما في ذلك ما يتعلق بالقدس، إلا إذا اتفق عليها الطرفان عبر المفاوضات.
إن هذه الخطوات الأحادية لا تغيّر من الحقيقة القانونية الراسخة التي تعتبر القدس أرضًا محتلة خاضعة لقرارات الأمم المتحدة. فالإقدام على فتح سفارات وبعثات دبلوماسية فيها لا يقتصر على كونه خرقًا فاضحًا للقانون الدولي، بل هو تحدٍّ مباشر لقرارات مجلس الأمن واتفاقيات جنيف، وتقويض لآراء محكمة العدل الدولية التي أكدت مرارًا بطلان الاعتراف بالأوضاع الناشئة عن الاحتلال.
إن هذه القرارات غير المشروعة التي تصدر عن بعض الدول لا تنسف فقط حل الدولتين، بل تمثل تهديدًا خطيرًا لشرعية النظام الدولي القائم على سيادة القانون. فإذا عجز المجتمع الدولي عن فرض احترام قواعده في قضية مركزية كقضية القدس، فإنه يبعث برسالة خطيرة مفادها أن القوة غلبت الحق، وأن العدالة الدولية لم تعد سوى شعارات زنانة لا قيمة لها. وهنا تتحدد لحظة الحقيقة، فإمّا أن ينهض العالم لحماية القانون الدولي، أو يترك الساحة مفتوحة لتكريس واقع غير مشروع يضع مستقبل الأمن والسلام العالميين على المحك.
* أستاذ القانون الدستوري في الجامعة الأردنية
laith@lawyer.com
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-09-2025 12:22 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |