21-09-2025 11:50 AM
بقلم : الإعلامي الدكتور محمد العشي
في عالمنا اليوم، لم تعد المسافات تُقاس بالكيلومترات، بل بلمسة إصبع على شاشة الهاتف، وأصبح القريب بعيدًا والبعيد قريبًا، ومع هذا الواقع الرقمي المتسارع، نعيش مفارقة غريبة حيث قربتنا التكنولوجيا من أشخاص يعيشون على بعد آلاف الأميال، لكنها في المقابل باعدت بين أفراد الأسرة الواحدة، حتى بات الحوار العفوي على مائدة الطعام نادرًا واستبدلته الرسائل والإشعارات، وكأننا فقدنا القدرة على الانسجام الإنساني الطبيعي أمام الشاشات المضيئة. في معظم المنازل يجلس أفراد الأسرة معًا جسديًا، لكنهم متباعدون عاطفيًا، فالأب منشغل بالرسائل والمهام الرقمية، والأم تغوص في صفحات التواصل الاجتماعي، بينما الأبناء والشباب يعيشون عالمهم الخاص بين الألعاب والمحادثات الرقمية، وهذا التباعد العاطفي يخلق شعورًا بالعزلة، ويؤثر مباشرة على تكوين الشخصية وجودة العلاقات الأسرية، فالدفء الذي كان ينبعث من جلسة عائلية بسيطة أصبح نادرًا، وكأننا فقدنا القدرة على التواصل الحقيقي مع من نحب.
ومن أكثر النتائج وضوحًا لهذا الواقع هو فقدان الحماس والاهتمام بالأنشطة اليومية، فالشاب أو الشابة يقضون ساعات طويلة في تصفح الصور والفيديوهات " ريلز " قبل النوم، دون التفكير في ممارسة هواية أو نشاط يضيف قيمة لحياتهم، ولا يقتصر الأمر على الشباب فقط، بل يمتد إلى الكبار الذين يجدون أنفسهم عالقين في روتين افتراضي لا ينتهي، حتى تتحول حياتهم إلى سلسلة من الإشعارات والتنبيهات، والأثر ليس فقط على النشاط الشخصي، بل يمتد إلى العلاقات الأسرية، فالأب الذي كان يفترض أن يقضي وقتًا ممتعًا مع أبنائه يجد نفسه مرهقًا وملتزمًا بالرد على الرسائل والتنبيهات، بينما تنتظر الأسرة تواصله العاطفي، وهذا النقص في التفاعل اليومي يخلق شعورًا بالخذلان لدى الأبناء ويزيد من إحساسهم بالوحدة والعزلة، مما يدفعهم أحيانًا للبحث عن الاهتمام خارج الأسرة في أماكن افتراضية غير آمنة.
لقد أصبح من أخطر ما زرعته وسائل التواصل الاجتماعي هو المقارنات الاجتماعية المستمرة، فالعديد من الشباب والشابات يرون صور حياة مثالية، سفر فاخرة، عطلات رومانسية، منازل مزخرفة، فتبدأ مشاعر النقص والإحباط بالتسلل، وتتفاقم هذه الظاهرة لتؤدي إلى قلق دائم ورفع سقف التوقعات، وتصبح متابعة حياة الآخرين هاجسًا يوميًا بدل التركيز على تطوير الذات وتحقيق الأهداف الحقيقية، وقد أكدت الدراسات النفسية أن المقارنات المستمرة ترفع مستوى القلق والاكتئاب، خصوصًا بين المراهقين والشباب، وتخلق شعورًا دائمًا بعدم الكفاية، وهنا يكمن دور الأسرة والتوجيه المهني والنفسي، لتعليم الشباب أن حياتهم لا تُقاس بعدد المتابعين أو الإعجابات، بل بجودة علاقاتهم وتأثيرهم الإيجابي على من حولهم.
كما أصبحت تشتت الانتباه ومشاكل النوم شائعة جدًا بين الشباب والعائلات على حد سواء، فالاطفال ينامون متأخرين بسبب متابعة الألعاب أو الفيديوهات، والكبار يستيقظون مرهقين بعد ساعات قليلة من النوم، فتتأثر صحتهم النفسية والجسدية بشكل كبير، وهذا التشتت الرقمي يعطل مسيرة الحياة اليومية، ويضعف القدرة على التركيز، ويؤثر سلبًا على الأداء الدراسي أو المهني، والعزلة النفسية الناتجة عن الانغماس الرقمي تجعل الفرد أقل قدرة على التواصل الحقيقي وأكثر ميلاً للانعزال عن الآخرين حتى داخل الأسرة نفسها.
التكنولوجيا لم تؤثر فقط على الأطفال والشباب، بل امتدت آثارها إلى العلاقات الزوجية، فالأزواج الذين ينشغلون بالهواتف أكثر من الحوار المباشر يجدون أن مشاعر الحب والدفء تتلاشى تدريجيًا، وتنشأ خلافات حول حدود استخدام السوشيال ميديا، أو نشر الصور والفيديوهات الشخصية، أو حتى عن كيفية إدارة الوقت الرقمي، والأطفال يشعرون بالحرمان العاطفي عند انشغال الآباء، وهذا الانشغال يعكس سلوكيات غير صحية للأجيال القادمة، حيث يتعلمون أن العالم الافتراضي أهم من العلاقات الحقيقية، وقد ورد في الحديث الشريف: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي"، وهو تذكير قوي بأن الحب الحقيقي والاهتمام لا يُقاس بالشاشات، بل بالوقت والوجود الفعلي.
من الأمثلة الواقعية على ذلك، فتاة شابة قضت ساعات في متابعة محتوى أصدقائها على إنستغرام، حتى أصبح اهتمامها بالأسرة ضئيلًا، وبدأت تشعر بالفراغ رغم وجود العائلة حولها، وأب عاشق للعمل الرقمي أهمل أنشطة أبنائه اليومية، حتى بدأت علاقته بهم تتأثر، وشعر الأبناء بعدم وجود الدعم العاطفي، وشاب حديث الزواج بدأ يشعر بالغيرة والقلق بسبب نشاط زوجته على وسائل التواصل، رغم الاتفاق المسبق على احترام الخصوصية، مما أدى إلى توتر العلاقة الزوجية، وهذه الأمثلة تبرز كيف أن السوشيال ميديا قربت البعيد وباعدت القريب، وكيف يمكن للانشغال الرقمي أن يؤثر على الأسرة والحياة الشخصية.
ورغم كل هذه التحديات، هناك خطوات عملية يمكن أن تعيد الدفء الأسري وتوازن الحياة الرقمية، منها تخصيص وقت يومي خالٍ من الشاشات للجلوس مع الأسرة على مائدة الطعام أو ممارسة أنشطة مشتركة، والحوار المباشر والابتسامة واللمسة الحقيقية، فالكلمات الطيبة وجهًا لوجه أقوى ألف مرة من أي "إيموجي" أو رسالة رقمية، والتوازن في استخدام التكنولوجيا بحيث نستفيد منها للتعلم والعمل دون أن تسرق الوقت من الأسرة أو النوم أو النشاط الشخصي، وتشجيع الهوايات والأنشطة الواقعية مثل القراءة والرياضة واللقاءات الجماعية، بالإضافة إلى التوجيه النفسي للأبناء لتعليمهم كيفية التعامل مع المقارنات الاجتماعية وحماية صحتهم النفسية، والقدوة العملية للأهل الذين يوازنون بين العمل الرقمي والحياة الواقعية ليمنحوا أبناءهم نموذجًا صحيًا للتعامل مع التكنولوجيا، ومراقبة الاستخدام الرقمي بشكل إيجابي من خلال وضع حدود مرنة لاستخدام الأجهزة دون فرض قيود صارمة، ليشعر الأطفال والشباب بالحرية مع المسؤولية.
جيل ما بعد السوشيال ميديا يملك فرصة ذهبية ليجمع بين أفضل ما في العالمين، يمكننا الاستفادة من التكنولوجيا للتعلم والتواصل، لكن دون أن ندعها تسرق إنسانيتنا أو تحل محل الحب والدفء العاطفي الحقيقي، فالدفء الأسري لا يُشترى بتطبيق، ولا يُقاس بعدد المتابعين، بل يُبنى بالوقت المخصص للأحباء، بالاهتمام اليومي، وبالحوار الصادق، ويجب أن نكون نحن من يوجّه التكنولوجيا لا من ينساق وراءها، وأن نستعيد البساطة في علاقاتنا قبل أن نصحو يومًا فلا نجد إلا شاشات مضيئة وقلوبًا معتمة، ومن خلال هذا التوازن، سننشئ جيلًا أقوى نفسيًا، أكثر ارتباطًا بقيمه، وأكثر قدرة على الحب والتواصل الحقيقي، مع الحفاظ على التفرد والخصوصية في حياتنا الرقمية.
النصائح وتأثير المشاهير
في عصر السوشيال ميديا، أصبحت النصائح تُقدّم لنا من كل اتجاه، خصوصًا من المشاهير الذين يعتقد الكثيرون أنهم قدوة مطلقة، فيسارعون لتطبيق ما يقولونه دون تمحيص أو تفكير. ومع انتشار النصائح الدينية والاجتماعية والعائلية منهم، أصبح من السهل أن يغرق الفرد بين أصوات متعددة تتناقض أحيانًا، فتختلط عليه الحقائق.
الأهم هنا أن يكون لكل شخص وعي كامل، وأن يختار ما يناسبه من نصائح بعد تقييمها بعقله وقلبه، بعيدًا عن الانسياق الأعمى وراء ما يقدمه الآخرون، سواء كانوا مشاهير أو مؤثرين على المنصات الرقمية. فالوعي والقدرة على التمييز هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على استقلالية القرار، وصحة العلاقات الأسرية، وتوازن الحياة اليومية.
وداع بلا انتظار
قبل أن يفارقنا من نحب، وقبل أن تبتلعنا الشاشات ونعجز عن رؤية أعينهم الحقيقية، دعونا نتوقف. دعونا نحتضنهم بقلوب حية، قبل أن نكتشف يومًا أن أصواتهم صارت ذكريات، ودفء حضنهم أصبح حلمًا لا نستطيع لمسه. لا تتركوا إشعارات العالم الرقمي تخدعكم، ولا تسمحوا لإدمان الشاشات أن يسرق لحظة ضحكة، همسة، أو نظرة صادقة. اعرف قيمتهم الآن، عش معهم اللحظة، احتضنهم بلا انتظار، قبل أن يكون الفقد هو الحقيقة الوحيدة، والندم هو الرفيق الدائم.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
21-09-2025 11:50 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |