حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,23 سبتمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 8250

نوفل يكتب: تطور علم الصيدلة: من أسرار الأعشاب إلى هندسة الجينات

نوفل يكتب: تطور علم الصيدلة: من أسرار الأعشاب إلى هندسة الجينات

 نوفل يكتب: تطور علم الصيدلة: من أسرار الأعشاب إلى هندسة الجينات

21-09-2025 08:24 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : الصيدلي عدوان قشمر نوفل
مدخل: الإنسان والبحث عن الشفاء
منذ أن فتح الإنسان عينيه على هذا الكون، لم يواجه تحديا أعظم من الألم والمرض. كان ينظر إلى جسده وهو بنهكه الحُمّى، أو إلى جرح ينزف بلا توقف، فيستشعر ضعفه أمام قوى الطبيعة الغامضة. ومن هنا بدأت رحلة طويلة، رحلة لا تبحث فقط عن شفاء الجسد، بل عن معنى البقاء ذاته. هذه الرحلة هي تاريخ علم الصيدلة: علم لم يولد فجأة، بل نما مع الإنسان، تراكمت فيه الحكمة، تداخلت فيه التجربة مع الإيمان، والعلم مع الأسطورة.
من الكهنة إلى الحكماء: الصيدلة في العصور القديمة
في الحضارات الأولى لم تكن هناك صيدلة بالمعنى الذي نعرفه اليوم، بل كانت خليطا من التجربة والسحر والروحانية.
في بلاد الرافدين، ترك السومريون ألواحا طينية تسجل وصفات دوائية من جذور ونباتات ومعادن، بعضها أقرب إلى الطلاسم، وبعضها يحمل بذور العلم.
في مصر القديمة، خطت بردية "إيبرس" عام 1550 ق.م أكثر من 800 وصفة، جمعت بين الطب والسحر، بين دعاء للإله وخلطة من النباتات.
أما اليونان، فقد جاء هيبوقراط ليقول: لا يكفي أن نعزو المرض إلى الآلهة، بل علينا أن نراقب الجسد نفهمه. وهنا بدأت بذرة العقلانية تدخل إلى الطب والصيدلة.
لكن النقلة الكبرى جاءت مع العرب والمسلمين. ففي بغداد، منذ القرن الثامن الميلادي، ولدت الصيدلية كمؤسسة مستقلة. لم يعد تحضير الدواء حرفة الكهنة ولا تجربة العطارين فقط، بل علماً له قواعده. هنا ظهر "الأقرباذين" كأول دستور للأدوية، وهنا برع العلماء:
الرازي الذي مزج بين التجربة الكيميائية والحكمة الطبية.
ابن سينا الذي جعل من كتاب القانون في الطب مرجعا لقرون طويلة.
ابن البيطار الذي جمع آلاف النباتات وشرح خصائصها.
جابر بن حيان الذي غاص في أسرار الكيمياء، ومهد لتحويلها إلى أداة في خدمة الدواء.
لقد نقل المسلمون الصيدلة من عالَم التعاويذ إلى عالَم التجربة، ومن الخلطات الغامضة إلى تحضير علمي منضبط.
عصر النهضة: عندما تغيرت نظرة الإنسان إلى الدواء
في أوروبا، عاشت الصيدلة قرونا طويلة في ظلال الكنيسة والخرافة. لكن مع عصر النهضة، ومع باراسيلسوس الذي قال عبارته الشهيرة: "الجرعة هي التي تصنع السم"، بدأ فجر جديد. صار الدواء تقاس لا بالشكل ولا المذاق، بل الجرعة والكمية الدقيقة. وهنا وضعت اللبنات الأولى لما نسميه اليوم علم الصيدلة الحديث.
الثورة الصناعية: ولادة الدواء النقي
كان القرن التاسع عشر نقطة تحول كبرى. لم يعد الإنسان يكتفي بغلي الأعشاب، بل عزل منها المادة الفعاله:
المورفين من الأفيون (1805)،
الكينين من شجرة الكينا (1820)،
الكوديين، وغيرها.
هكذا تحول الطب من وصفة خام إلى مادة نقية يمكن دراستها علميا. ثم جاءت الكيمياء العضوية لتفتح أبواب التصنيع. ومن رحم هذه المرحلة ولد الأسبرين عام 1853، الدواء الذي غير حياة الملايين.
القرن العشرون: عصر المعجزات الطبية
مع بداية القرن العشرين، بدأ الدواء يتحول إلى صناعة. وولدت شركات الأدوية الكبرى، ومعها مختبرات تكتشف وتصنع وتوزع.
عام 1928، جاء ألكسندر فليمنغ ليكتشف البنسلين، ويعلن بدء عصر المضادات الحيوية. لقد أنقذ هذا الاكتشاف وحده ملايين الأرواح، وغير معادلة الحرب بين الإنسان والجراثيم.
تطورت التجارب السريرية، وأصبح الدواء يمر بمراحل دقيقة: من الاختبار المخبري إلى التجربة على الحيوان، ثم على الإنسان.
ظهرت فروع جديدة: الصيدلة السريرية التي ترافق المريض في المستشفى، الصيدلة العصبية التي تبحث في تأثير الأدوية على الدماغ، والصيدلة الجينية التي تستكشف علاقة الدواء بالجينات.
لقد أصبح الدواء ليس مجرد علاج للعرض، بل أداة لفهم المرض على المستوى الجزيئي.
القرن الحادي والعشرون: الطب الشخصي والذكاء الاصطناعي
اليوم، تقف الصيدلة على أعتاب ثورة جديدة، ثورة تجعل الماضي كله يبدو وكأنه مجرد تمهيد.
1. التقنية الحيوية (Biotechnology):
لم يعد الدواء مجرد جزيء كيميائي، بل أصبح كائنا حيا صغيرا أو بروتينات معقدا. من الأنسولين الذي تنتج بتقنية الحمض النووي، إلى الأجسام المضادة وحيدة النسيلة لعلاج السرطان.
وها هو العلاج الجيني يدخل إلى الخلايا يصلح خللاً وراثياً، والعلاج الخلوي يوظف الخلايا الجذعية لإعادة بناء الأنسجة.
2. الصيدلة الجينية (Pharmacogenomics):
لم يعد الدواء واحدا لكل البشر، بل أصبح كيف حسب الجينات الفردية. هنا يولد "الطب الشخصي"، حيث يعالج كل مريض بجرعة تخصه هو وحده.
3. الذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد:
أصبح الكمبيوتر يصمم جزيئات دوائية جديدة خلال أيام، بعد أن كانت هذه العملية تستغرق سنوات. وتستطيع الطابعات ثلاثية الأبعاد أن تنتج حبوب بأشكال و جرعات مصممة بدقة، أو حتى أنسجة بشرية لأغراض البحث.
بين الأمس والغد
تاريخ الصيدلة هو مرآة لتاريخ الإنسان نفسه: من خوفه الأول من المرض، إلى طموحه في السيطرة على أسرار الجسد والوراثة. لم يعد الصيدلي مجرد "عطار" يحضر الخلطات، بل صار شريكاً في العلاج، حارسا للدواء، موجها للمريض نحو الاستخدام الأمثل.
واليوم، يقف العلم على أعتاب مرحلة قد تغيّر معنى الطب كله: علاج دقيق، شخصي، يعتمد على الجينات والذكاء الاصطناعي، ويَعِد بفتح أبواب كانت مغلقة أمام الإنسان لقرون.
إن رحلة الصيدلة من الأعشاب إلى الجينات، ومن الكهنة إلى العلماء، ليست مجرد تطور علمي، بل هي حكاية الإنسان وهو يسعى، بإصرار لا ينكسر، إلى قهر المرض والتمسك بالحياة.











طباعة
  • المشاهدات: 8250
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
21-09-2025 08:24 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما مدى رضاكم عن أداء وزارة الاتصال الحكومي بقيادة الوزير محمد المومني؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم