17-09-2025 09:48 AM
بقلم : غاندي النعانعة
إن المجتمع الذي يرعى مواهب أبنائه، و ينميها هو مجتمع يضمن لنفسه موردا بشريا يثري مستقبله بالابتكار والإبداع، و يمكن لأجياله من أجل مواجهة التحديات المتجددة في عالم مضطرد التغير.
و إن النظر إلى المدرسة كمساحة لاكتشاف الموهبة يتطلب إدراكا شاملاً يجمع بين الأبعاد التربوية والفلسفية والنفسية، ويكشف عن الدور الجوهري للمؤسسة التعليمية الهادفة لإحياء سجايا الإنسان الخيرة القابلة للاستدامة و التثمير، و الأخذ بيدها وتنميتها.
وليس ذلك من باب الرفاهية التربوية أن تكون المدرسة مضمارا لاكتشاف الموهبة، بل إنها حاجة إنسانية ملحة و مسألة اجتماعية مستعجلة، و إن الاستثمار في تحويل المدارس إلى بيئة صديقة للمواهب وتنميتها هو استثمار في المستقبل، ليس فقط على مستوى الأفراد، ولكن على مستوى المجتمع بأكمله.
إن تحقق هذه الرؤية يتطلب إرادة تربوية و جرأة ، وقبل كل شيء، إيماناً راسخاً بأن كل طالب يحمل في داخله شيئا من العظمة ينبغي رعايته وصقله.
فالمدرسة ليست مجرد مجال مادي تُلقن فيه المعارف،و الحقائق المنفصلة عن واقعها بل هي عالم إنساني تُبنى فيه الشخصيات و الاستعدادات، وتُكتشف فيه الطاقات، وتُنمى فيه المواهب .
و الموهبة هي جوهر إنساني يحتاج إلى أن
تطرح مضامينه في أروقة مؤسساتنا و عناوين أبحاثنا لتغطي مخرجاتها احتياجات كامنة في طبيعة الإنسان، احتياجات كبيرة و واعدة ؛فإذا كنا نؤمن بأن كل فرد يحمل في داخله بذرة تميز فريدة، فإن دور المدرسة يصبح تهيئة البيئة المزدهرة التي تسمح لهذه البذرة بالنمو والازدهار.
لنقول هنا أن الفلسفة التربوية التقدمية تثبت ما للتعليم الراعي للموهبة من قدرة على أن يمنح المتعلم خبرة ترتبط باهتماماته وقدراته الطبيعية؛وعند تبني المدرسة هذا المنظور فإنها لا تفرض منهجاً صارماً واحداً على جميع الطلاب، بل توفر مسارات متنوعة تسمح لكل موهبة بالظهور والتعبير عن نفسها، كما لو كانت ليست مجرد مكان للتحضير للمستقبل، بل حاضنة يعيش في أكنافها الطالب تجربة غنية ومتنوعة تسمح له باكتشاف ذاته وقدراته في الآن نفسه.
و يعد اكتشاف الموهبة عملية متشعبة تتطلب فهماً دقيقاً لمراحل النمو الإنساني وآليات التعلم؛ إذ يقدم هوارد جاردنر في نظريات الذكاءات المتعددة إطاراً نظرياً غنياً لإعادة النظر في مفهوم الموهبة، فبدلاً من التركيز على الذكاء الرياضي واللغوي ،وسعت هذه النظرية مفهوم الموهبة ليشمل الذكاء الموسيقي، والجسدي الحركي، والبصري المكاني، والاجتماعي.
هذا التوسع في مفهوم الموهبة يفرض على المدرسة توفير بيئة تعليمية غنية ومتنوعة، تتيح للطالب فرصاً لاكتشاف مختلف جوانب قدراته، و ها هو علم النفس الإيجابي يشير إلى أهمية المشاعر الإيجابية والانغماس في النشاط و في تنمية الموهبة، إذ إن ذاك يتطلب من المدرسة خلق جو تعليمي محفز و آمن، يلعب كلا من الشعور بالأمان النفسي و الثقة بالمعلمين دوراً مهماً في هذا السياق، وهذا يشكل عاملاً حاسماً في حماس الطالب على تجريب قدراته وإظهار مواهبه دون خوف من الفشل أو السخرية.
و ما المدرسة التقليدية التي تتبنى منهجاً موحداً وأساليب تدريس واحدة للجميع،إلا مهينة للموهبة و منتقصة لها، بينما المدرسة الداعمة للموهبة تتبنى التمايز التعليمي، وتوفر مسارات تعلم متنوعة،و تكون أكثر قدرة على اكتشاف المواهب المتنوعة بحيث ترتبط الموهبة ارتباطاً وثيقاً بالمناهج التربوية وأساليب التدريس.
إن التربية المرتكزة على اكتشاف الموهبة تعتمد تقييماً تكوينياً يركز على نمو الطالب الفردي بدلاً من المقارنة مع الآخرين، و أنشطة لاصفية غنية تتيح للطلاب استجلاء مجالات مختلفة، و مساحات للإبداع والتعبير الحر داخل الصفوف الدراسية يتوج ذلك بتعليم قائم على المشاريع يتيح للطالب تطبيق مواهبه في سياقات حقيقية قابلة للاستمرار.
و لعلنا لا ننسنى أن نورد هنا ما تواجهه المدرسة في طريقها لتصبح راعية للموهبة من تحديات؛ أبرزها: التركيز على نتائج الامتحانات والتقييمات الموحدة، و نقص في تدريب المعلمين و دعمهم و حثهم على اكتشاف المواهب المتنوعة،بالإضافة إلى محدودية الموارد، و المساحات اللازمة للأنشطة المختلفة.
من جانب أخر، و من أجل مواجهة هذه التحديات يجب إعادة النظر في سياسات التقييم والامتحانات، و تطوير برامج إعداد وتدريب للمعلمين فاعلة و قابلة للمداولة و الانتقال للمعلم قبل الطالب، تركز على التمايز بين الطلاب، و تخصص مساحات مادية وزمنية تضيف للجدول المدرسي أنشطة إبداعية، و وشراكات مع مؤسسات المجتمع المدني والمتخصصين في شتى المجالات.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
17-09-2025 09:48 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |