09-09-2025 01:25 PM
بقلم : د.نشأت العزب
في عالمٍ يتسارع بخطى غير مسبوقة نحو الذكاء الاصطناعي والتقنيات الخارقة، ويغرق أكثر فأكثر في سباق الابتكار والتقدم التكنولوجي، وقفت جلالة الملكة رانيا العبدالله مؤخرًا على منصة مؤتمر “سيليغو” في المكسيك، لا لتحتفي بما تحقق من تقدّم، بل لتدق ناقوسًا فلسفيًا وإنسانيًا في آن واحد، وتطرح سؤالًا بسيطًا في شكله، عميقًا في معناه: إلى أين نمضي، وكيف يبدو هذا الطريق حين تُنزَع منه القيم؟
كلمة جلالتها لم تكن مجاملة دبلوماسية، ولا مجرد إسهام بروتوكولي في مؤتمر دولي، بل كانت موقفًا واضحًا، يحمل من الوعي الأخلاقي بقدر ما يحمل من الشجاعة الأدبية. كانت أقرب إلى محاكمة ضمير عالمي، بلغة رزينة، وهدوء واثق، بعيدًا عن الشعارات أو الخطابات الانفعالية، تحدثت عن التقنية، نعم، لكنها لم تنبهر بها. بل خاطبت جوهر ما يجب أن يكون عليه جوهرها و هو ان تكون أداة في خدمة الإنسان، لا قوة مهيمنة عليه، استحضرت جلالتها مثال تلسكوب “فيرا سي روبين”، الذي يراقب السماء ليلًا ونهارًا، فقط لتذكّر العالم بأننا، في خضم هذا التطلّع الفلكي، نسينا أن نوجه عدساتنا نحو الداخل، نحو الأسئلة المؤجلة، نحو حقيقتنا كبشر.
ولعلّ اللحظة المفصلية في الكلمة كانت حين انتقلت جلالتها إلى الحديث عن غزة، ليس كقضية سياسية، بل كمرآة تكشف خلل المنظومة الأخلاقية العالمية، بعين الأم، والمرأة، والإنسانة، تحدّثت عن المجازر، عن الصمت، عن الأطفال الذين يُدفنون أحياء تحت أنقاض البيوت، والعالم يُواصل يومه وكأن شيئًا لم يحدث، وبشكل واضح وصفت جلالة الملكة هذا الصمت بأنه شراكة غير معلنة في الجريمة، مؤكدة أن الحياد في وجه الظلم في هذا الزمن، لم يعد خيارًا أخلاقيًا بل تواطؤًا مقنّعاً.
رسائل جلالة الملكة رانيا، وإن جاءت من منبر دولي، تنبع من نهج متجذّر في وجدان الدولة الأردنية، قيادةً وشعبًا. فجلالة الملك عبدالله الثاني، ومنذ توليه المسؤولية، لم يفوّت مناسبةً إلا وأكّد فيها على مركزية الإنسان، وعلى أنّ الكرامة لا تُجزّأ، وأن القيم الإنسانية يجب أن تظلّ بوصلة القرار، مهما بلغت تعقيدات السياسة وضغوط المصالح، أما سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني فقد كرّس حضوره محليًا ودوليًا للدفاع عن دور الشباب في صنع مستقبل أخلاقي ومسؤول، حيث لا ينفصل التقدّم عن العدالة، ولا يطغى العلم على المبدأ.
ورغم الحدة الرمزية لهذا الموقف، ظلّ خطاب جلالة الملكة متزنًا في بنيته، حكيمًا في نبرته، مُنحازًا للإنسان بمعناه الأشمل، لا لفئة أو شعب أو جهه فلم تكتفِ بالنقد، بل أعادت تعريف التحضّر بعيدًا عن المؤشرات الاقتصادية أو البنية التحتية، معتبرة أن المدنية الحقيقية تُقاس بخياراتنا الأخلاقية، بقدرتنا على أن نقف مع الضعيف، ونرفض الظلم، حتى لو لم يمسّنا مباشرة، ان التحضّر كما وصفته لا يُقاس بما نملك بل بكيف نعامل من لا يملك.
وفي ختام حديثها، قدّمت صورة صادقة عن الأردن، لا كقوة إقليمية بل كنموذج إنساني يعيش التحديات بإصرار ويواجه الضيق بالقيم، تحدّثت عن المجتمع الأردني الذي يُقبّل يد الكبير احترامًا، ويغيث المنكوب، ويفتح أبوابه للغريب رغم ندرة الإمكانيات، في ذلك التوصيف، لم تكن تسوّق لصورة نمطية، بل كانت تُشير إلى ما تبقّى من ضوء في زمنٍ يتكاثر فيه الظلّ.
خطاب الملكة رانيا العبدالله في مؤتمر سيليغو لم يكن فقط دعوة لإعادة التوازن بين التقنية والضمير، بل كان أيضًا امتدادًا لتوجّه راسخ في الرؤية الهاشمية الحديثة، التي ترى أن الإنسان هو غاية التنمية لا وسيلتها، وأن لا جدوى من التقدّم إن لم يُفضِ إلى المزيد من العدالة، والرحمة، والسلام، لقد قالت جلالتها ما كان يجب أن يُقال، لا بصوتٍ عالٍ، بل بصوتٍ عاقل، واضح، يعرف متى يصمت، ومتى يُصبح الصمت خيانة.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
09-09-2025 01:25 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |