26-08-2025 11:34 AM
بقلم : د.عاصم منصور
منذ فجر التاريخ؛ ظلّ الإنسان يسعى للتّمايز والاختلاف، وكأنّ هذه النّزعة جزءٌ لا يتجزأ من تكوينه النّفسي والاجتماعي. ففي كلّ مجتمع مهما بلغ من التجانس، تظهر خطوطٌ فاصلةٌ جديدة، وتبرز محاولات مستمرة لإبراز الفوارق، سواءٌ كانت حقيقية أو متخيّلة. وهذا السعي للاختلاف ليس مجرّد رغبة عابرة أو نزوة سطحية؛ بل هو انعكاسٌ لحاجة عميقة في النفس البشرية لإثبات الذات، ولتعزيز الشعور بالهوية والانتماء. فالإنسان في بحثه عن هوية تميزه، يجد في الاختلاف وسيلة لتحديد موقعه بين الآخرين، ولرسم حدود جماعته التي تمنحه الأمان والاعتزاز.
غير أنّ هذا الاختلاف الذي كان في أزمنة كثيرة مصدرا للثّراء والتنّوع؛ قد يتحوّل في لحظات معينة إلى أداة للانقسام والصّراع. فالتاريخ الإنسانيّ حافل بأمثلة لمجتمعات استطاعت أنْ تدير اختلافاتها بحكمة؛ فحققت نهضة حضارية غير مسبوقة، فقد شكّلت الحضارة الإسلامية في أوج سطوعها بوتقة انصهرت فيها أعراقٌ وأديانٌ وثقافاتٌ متعددة، فانبثقت منها حركةٌ علميةٌ وفكرية أغنت البشرية جمعاء فكان التّعدّد مصدر إبداع وازدهار؛ لكن في المقابل هناك لحظاتٌ سوداءٌ في التاريخ تحوّلت فيها الفوارق إلى خطوط دم، حيث استثمرت الاختلافات الإثنيّة أو الطائفيّة أو الطبقيّة لإشعال الحروب والصّراعات.
المفارقة أنّ الإنسان، حتى في غياب الفوارق الواضحة، لا يكفّ عن اختراع خطوط جديدة للتمايز، فإذا لم يجدْ ما يفرّقه عن الآخر؛ ابتكر فوارق جديدة ولو من خلال الولاء لفريق رياضي، وكأنّ الحاجة إلى الشعور بالتّفرد والانتماء لجماعة مميزة لا تنطفئ بلْ تتجدد باستمرار، وتبحث عن أشكال جديدة للتّعبير عن نفسها. وهذه الحاجة وإن بدتْ طبيعية في سياق بناء الهوية، إلاّ أنّها قد تتحوّل إلى أداة خطيرة إذا استغلت سياسيا أو اجتماعيا وخاصة عندما تغذّى بخطابات الكراهية أو سياسات التّمييز.
في كثير من الأحيان، لا تكون الفوارق الدّينية أو العرقية أو الطبقية بحدّ ذاتها سببا للصراع؛ بل يكمن الخطر في استثمار بعض القوى لهذه الفوارق لتحقيق مصالح ضيقة؛ فحين يعاد تعريف «المختلف» كتهديد وجوديّ، وتضخّم الفوارق عبر الإعلام أو المناهج التعليمية، يتحوّل المجتمع إلى ساحة صراع مفتوح، وتضيع فرص التعايش والإبداع المشترك، ولعل أخطر ما في الأمر أنّ الانقسام لا يقتصر على حدود الدين أو العرق أو الطبقة؛ بل يمتدّ ليشمل تفاصيل الحياة اليومية، فيتحوّل كلّ اختلاف بسيط إلى ذريعة للتمييز أو الإقصاء.
ومع ذلك، لا يمكنْ للإنسان أنْ يتخلّى عن حاجته للاختلاف، لكن يمكنه أنْ يوجّهها نحو الإبداع والتنافس البنّاء بدلا من الصراع والانقسام، فبدلا من أن تكون الفوارق سببا للعداء؛ يمكن أن تصبح مصدرا للإثراء المتبادل؛ إذا ما أديرت بحكمة وعدالة.
هنا تبرز أهمية التربية على قبول الآخر، وتعزيز قيم المواطنة والمساواة، وبناء مؤسّسات تضمن العدالة وتكافؤ الفرص للجميع؛ فالمجتمعات التي تدرك هذه الحقيقة وتحتضن تنوّعها، هي الأقدر على البقاء والتطور؛ لأنها تجعل من الاختلاف جسرا للتواصل لا حاجزا للانقسام.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-08-2025 11:34 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |