20-08-2025 12:26 PM
بقلم : د. حمزه العكاليك
تغيرت قواعد اللعبة في عالم الذكاء الاصطناعي بسرعة مذهلة؛ فلم يعد كافيًا أن تمتلك التكنولوجيا، بل صار المهم أن تتحكم في كيفية استخدامها. في هذا السياق، اتخذ البنك المركزي الأردني خطوة استباقية، بإطلاق إطار تنظيمي عملي للقطاع المالي، أحد أكثر القطاعات حساسية وتأثيرًا على الاقتصاد الوطني. فالهدف منها لم يكن مجرد مواكبة التطورات العالمية، بل وضع الأردن في موقع الريادة، ليكون صانعًا للسياسات والقواعد بدلًا من أن يكون متلقيًا لها فقط.
يمكّن الإطار الأردني المؤسسات المالية من الاستجابة السريعة للتغيرات المتلاحقة في مجال الذكاء الاصطناعي، مع خطة لمراجعته وتحديثه بشكل دوري لتعكس أحدث المستجدات. ويعتمد الإطار على أسس متينة تضع القطاع المالي في طليعة الابتكار المسؤول. ومن أبرز مكونات هذا الإطار الحوكمة المركزية، إذ يفرض إنشاء لجان متخصصة أو وحدات مسؤولة داخل كل مؤسسة مصرفية للإشراف على استخدامات الذكاء الاصطناعي، بما يضمن اتخاذ القرارات على أعلى المستويات التنفيذية وتحقيق التوافق الاستراتيجي مع أهداف المؤسسة.
كما يعتمد الإطار نهجًا قائمًا على المخاطر، حيث يتم تصنيف تطبيقات الذكاء الاصطناعي وفقًا لمستوى المخاطر المحتملة (منخفضة، متوسطة، أو مرتفعة)، مما يمكّن المؤسسات من تطوير استراتيجيات رقابية متناسبة مع كل مستوى. هذه الآلية توفر أداة عملية لإدارة الموارد بفعالية وتحقيق الكفاءة التشغيلية. ويضع الإطار العميل في صميمه، حيث يكفل حقوقه بشكل واضح، من خلال منحه الحق في الانسحاب من التعامل مع الأنظمة المؤتمتة واختيار البدائل التقليدية، إضافة إلى ضمان تقديم تفسيرات واضحة ومفهومة للقرارات التي تتخذها الخوارزميات. هذه الشفافية تشكل عنصرًا تفاضليًا قويًا في بناء الثقة مع المستخدمين.
كما جعل الإطار الرقابة البشرية والإشراف المستمر ركيزة أساسية، مؤكدًا على أهمية التدخل البشري في الأنظمة الحرجة لضمان وجود صمام أمان يسمح بتصحيح أي نتائج غير مرغوبة. ويكتسب الإطار بُعدًا دوليًا من خلال الاستفادة من أفضل الممارسات العالمية، بما في ذلك استخدام تعريفات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للمصطلحات الأساسية مثل المساءلة وقابلية التفسير، مما يعزز دور الأردن ضمن المنظومة التنظيمية العالمية ويجعل البيئة الاستثمارية أكثر وضوحًا وجاذبية للمستثمرين الأجانب.
على الجانب الآخر، يمثل قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي نهجًا مختلفًا تمامًا، إذ يهدف إلى أن يكون مرجعًا عالميًا شاملاً، يغطي مطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي ومزودي النماذج العامة ويصنف الأنظمة حسب درجة الخطورة، بدءًا من المحظورة وصولًا إلى ضئيلة المخاطر. ويعكس القانون الأوروبي قوته في الغرامات الضخمة التي قد تصل إلى 35 مليون يورو أو 7% من الإيرادات العالمية، مما يجعل الامتثال ضرورة قصوى على مستوى الإدارة العليا، ويجعل القانون أداة استراتيجية للسيطرة على السوق الرقمي العالمي وضمان توافق الابتكارات مع القيم الأوروبية.
ومع القوة الرادعة لهذه الغرامات، تبرز تحديات تنفيذية كبيرة، إذ يشير الدليل العملي للقانون إلى أن العديد من المصطلحات الأساسية، مثل نظام الذكاء الاصطناعي والتعديل الجوهري، لا تزال غامضة وقابلة لتفسيرات متغيرة. هذا الوضع يضع الشركات أمام خيارين: الانتظار لوضوح نهائي قد لا يأتي، أو الشروع في بناء برامج امتثال مرنة وقابلة للتحديث، مما يزيد التكاليف القانونية والتشغيلية ويثبط الشركات الصغيرة والناشئة، بينما تعزز هيمنة الشركات الكبرى القادرة على مواجهة التعقيد التشريعي.
بين القوة الرادعة للغرامات الأوروبية والمرونة العملية للنهج الأردني، تظهر فروقات واضحة. فعلى الرغم من شمولية الإطار الأردني، توجد فجوة تنفيذية بسبب غياب آلية واضحة للجزاءات المالية، إذ يحدد الإطار مسؤوليات البنك المركزي في تقييم الامتثال، لكن عدم وجود عقوبات رادعة قد يجعل المؤسسات تتعامل معه كأفضل ممارسة بدلاً من متطلب إلزامي، مما قد يقلل من فعاليته في تحقيق الأهداف المرجوة.
مع ذلك، يتميز النهج الأردني بإمكانية أن يصبح نموذجًا إقليميًا فريدًا. فالتركيز على القطاع المالي أولًا يتيح بناء خبرة وبنية تنظيمية متينة يمكن لاحقًا توسيعها لتشمل قطاعات حساسة أخرى مثل الصحة والتعليم، وهو ما يمهد الطريق نحو حوكمة وطنية شاملة بدون القفز مباشرة إلى تشريع واسع النطاق. ويجعل الإطار عمليًا، حيث تترجم مبادئ الجودة مقابل الكم إلى أدوات ملموسة، من لجان حوكمة داخل البنوك إلى تصنيف التطبيقات وفق المخاطر وضمان حقوق العملاء.
على سبيل المثال، يمكن للبنوك استخدام أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة لتقييم طلبات القروض بدقة أكبر، شريطة أن يظل القرار النهائي تحت إشراف بشري، مع منح العميل الحق في الاعتراض والحصول على تفسير واضح للقرار. وفي مكافحة الاحتيال، تستطيع الأنظمة تحليل ملايين المعاملات في الوقت الفعلي، لكن الإطار الأردني يضمن الإشراف البشري على القرارات الحساسة، مما يقلل الأخطاء ويعزز الثقة.
الخلاصة، أن الإطار الأردني ليس مجرد وثيقة تنظيمية، بل رؤية وطنية للاستثمار في الذكاء الآمن. المؤسسات التي تتبناه اليوم ستكسب ثقة العملاء، وتجذب شراكات دولية، وتضع نفسها في طليعة الابتكار المالي في المنطقة، بينما من يتأخر قد يفقد فرصة المشاركة في صناعة القواعد في عصر يُعاد فيه تشكيل مستقبل الاقتصاد العالمي.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
20-08-2025 12:26 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |