11-08-2025 08:39 AM
بقلم : نسرين قطامش
في هذه الأيام، يعيش طلاب التوجيهي لحظة دقيقة وهم يملؤون طلبات القبول الموحد، يكتبون أسماء التخصصات التي سترافقهم لسنوات وربما لعقود قادمة. وفي البيوت، تتداخل أحاديث الخيارات مع ضحكات الحماسة أو توتر الانتظار، وفي عيونهم خليط من القلق والأمل… خليط يشبه تلك اللحظة في مباراة حاسمة، حين تترقّب الجماهير الهدف بينما يقف اللاعب محاطا بالضغط والتوقعات.
ومن هنا خطر لي السؤال:
هل نختار مستقبلنا كما نشجع فريقنا المفضل… بعاطفة لحظية أو بضغط الجماهير؟
أم نختاره بعين من يعرف مكانه الحقيقي في الملعب، وبقلب من يلعب بشغف، وبعقل من يفهم قدراته ويقرأ خطط المباراة جيداً؟
فلسفة الملعب
كرة القدم ليست مجرد 90 دقيقة و11 لاعبا تحت الأضواء. هي منظومة كاملة: مدرب يضع الخطة، لاعبون احتياطيون ينتظرون الفرصة، فريق طبي جاهز للتدخل، إدارة تنظم، مشجعون، وعمّال لا يظهرون على الكاميرا لكنهم يضمنون أن كل شيء يسير كما يجب.
وكذلك هي الحياة… النجاح لا يبنى على لاعب واحد أو مهنة واحدة، بل على أدوار متعددة يكمل بعضها بعضا ويمنح كل منها المعنى للآخر.
ليس كل من يسجل الهدف هو البطل الوحيد… فالحارس الذي أنقذ مرماه في اللحظة الأخيرة، أو صانع الألعاب الذي مرر الكرة بدقة، أو حتى من جهز الملعب قبل صافرة البداية… جميعهم شركاء في النصر.
بين الحلم والقدرة والواقع
في رحلة كل إنسان، هناك دائما حلم أول… صورة مثالية يرسمها في ذهنه للمستقبل. لكن الحياة لا تسير دائما وفق الخطة التي وضعناها، وأحيانا يفتح لنا الواقع أبوابا لم نفكر فيها من قبل، لكنها تناسبنا أكثر وتسمح لنا بالتألق.
لطلاب التوجيهي، قد يبدو معدل الامتحان وكأنه الحاكم الوحيد للمصير. لكن الحقيقة أن النجاح له أكثر من طريق، وأن الشغف والقدرة هما البوصلة التي تقودك إلى حيث تنتمي، مهما تغيّرت المسارات.
المعادلة الصحية تبدأ بالتعرف على نفسك: ما الذي تحبه حقا؟ ما الذي تجيده بالفعل؟ وما هي المجالات التي تمنحك الفرصة لصنع أثر حقيقي؟ ثم يأتي دور الوعي بالواقع: فهم احتياجات سوق العمل، ومتطلبات المهن، والفرص التي يمكن أن تلتقي فيها موهبتك مع حاجة المجتمع.
أدوار تصنع الحياة… أكبر من الألقاب
في سباق الحياة، كثيرون ينشغلون باللقب الذي يسبق الاسم: دكتور، مهندس، أستاذ… وكأن القيمة تُقاس بالكلمات على بطاقة التعريف. لكن الحقيقة أن الأثر الذي نتركه في قلوب الناس، وفي تقدم المجتمع، هو المقياس الأصدق لأي نجاح.
نحن نحتاج إلى الأطباء والمهندسين، نعم… لكننا لا نريدهم أرقاما في صفوف الكليات، أو حاملين للقب من أجل الوجاهة. نريدهم شغوفين، مبدعين، راغبين حقا في هذا المسار، مؤهلين له بقدراتهم وكفاءاتهم.
وفي المقابل، نحن في حاجة لا تقل أهمية إلى المبتكرين، والفنيين المهرة، ورواد الأعمال، وصناع المحتوى المؤثر، والباحثين، والمزارعين، والمدربين، والفنانين… لأن المجتمع، مثل فريق كرة القدم، لا يمكنه الفوز إذا غاب أي مركز من مراكزه. الحارس، والمدافع، وصانع الألعاب، وحتى من يجهز الملعب قبل صافرة البداية… جميعهم أساس الانتصار، وجميع هذه المهن تصبح عظيمة حين يؤديها صاحبها بشغف، وإتقان، وإحساس بالمسؤولية، وحين يدرك أن دوره جزء من عقد أخلاقي مع مجتمعه.
القيمة الحقيقية ليست أن تكون "الأكثر شهرة" أو "الأكثر طلبا" في سوق العمل، بل أن تكون الأكثر تأثيرا في موقعك، وأن تعرف أنك تلعب دورك في فريق أكبر منك، فريق اسمه الحياة.
رسالة للأهل
أبناؤكم ليسوا نسخا عن أحلامكم المؤجلة. هم أرواح جديدة تحمل مواهب مختلفة وشغفا قد لا يشبهكم، لكنه حقيقي.
دوركم أن تفتحوا معهم الحوار، لا أن تفرضوا عليهم القرار. استمعوا إليهم لا لأرقامهم فقط، بل لما تحبه أرواحهم وما تستطيع أيديهم أن تبدعه. تذكّروا أن النجاح ليس ما نريده نحن، بل ما يصنعونه هم وهم سعداء.
فلنبنِ مجتمعا يحتضن كل طموح، لا مجتمعا يضع الجميع في قالب واحد.
ولنجعل من التوجيهي بداية لحوار عميق مع الذات، لا نهاية للخيارات.
املأوا طلب القبول الموحد بوعي… لا ليحدد مستقبلكم، بل ليكون بداية رحلة لا تشبه إلا أنفسكم.
قد لا يفهمكم البعض في البداية، لكن إذا لعبتم دوركم بإخلاص، سيصفق لكم الجمهور في النهاية… حتى لو كنتم الحارس، أو المدافع، أو صانع الألعاب.
فكل واحد منكم مشروع قائد… إن عرف مكانه في الملعب، وآمن بنفسه، ومضى في طريقه بشجاعة.
نسرين قطامش
مدير عام مؤسسة الحسين للسرطان
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-08-2025 08:39 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |