31-07-2025 08:28 AM
بقلم : د. رعد محمود التل
في ظل التحولات الاقتصادية العالمية المتسارعة، يأتي خطاب محافظ البنك المركزي، عادل شركس، ليؤكد أن الأردن بات يتبنى نموذجاً إصلاحياً مختلفاً جوهرياً عن السنوات السابقة. فقد غادر الاقتصاد الوطني مرحلة "الإصلاح كردة فعل"، وانتقل إلى "الإصلاح كاستراتيجية"، من خلال رؤية التحديث الاقتصادي التي أعادت صياغة الفلسفة الاقتصادية للمملكة، ليس فقط من حيث الأهداف، بل أيضاً من حيث الأدوات والآليات.
هذا التحول ينعكس في ثلاثة محاور رئيسية: أولاً، في تبني مقاربة استباقية تعزز مناعة الاقتصاد أمام الصدمات؛ ثانياً، في تعزيز مرتكزات الاستقرار الكلي كمدخل للنمو المستدام؛ وثالثاً، في هيكلة أدوات السياسة المالية والنقدية ضمن منطق تكاملي طويل الأجل.
اقتصاديًا، يمكن رصد تطور النمو ليس كمجرد تحسن رقمي، بل كمؤشر على اتساع القاعدة الإنتاجية وتحول هيكل النمو نحو قطاعات أعلى إنتاجية وأكثر ارتباطًا بالطلب الخارجي. مساهمة الاستثمار (40%) والقطاع الخارجي (38%) في النمو خلال 2021-2024 تكشف أن قوى الدفع الجديدة أصبحت خارجة من قطاعات قابلة للتوسع، وهو ما يضع الاقتصاد على مسار نمو نوعي لا يعتمد فقط على حجم الاستهلاك المحلي أو الإنفاق العام كما في السابق. طبع هذا التحول يعكس أيضاً فعالية السياسات الهيكلية التي استهدفت تحفيز الإنتاجية وتنمية رأس المال البشري، وهي العناصر التي تُشكّل العمود الفقري لما يسمى بـ"الناتج المحتمل" الذي يُعدّ مقياسًا لقدرة الاقتصاد على النمو دون توليد تضخم مفرط.
من جهة أخرى، يوضح الأداء الخارجي مرونة واضحة: ارتفاع مساهمة الصادرات غير التقليدية في الناتج من 16.2% في 2016 إلى 20.9% في 2024، وتراجع فاتورة الطاقة إلى 7% من الناتج، وتحسن تحويلات العاملين (3.6 مليار دولار)، جميعها عناصر تعزز الاستقلالية النسبية للاقتصاد الأردني في بيئة تجارية وجيوسياسية مضطربة.
وفي السياق النقدي، فإن استقرار معدل التضخم (نحو 2%) والاحتياطات الأجنبية التي تغطي أكثر من 8 أشهر من الواردات، يؤكدان على صلابة الإطار النقدي وفعالية أدوات السياسة النقدية. كما أن تراجع الدولرة إلى 18.1% يعكس ثقة محلية متزايدة بالدينار، في وقت يُعد فيه الاستقرار النقدي نادراً في الاقتصادات الناشئة المحاطة بتوترات إقليمية.
أما القطاع المصرفي، فهو يشكل ركيزة أساسية في المعادلة. النمو في التسهيلات الائتمانية (أكثر من 7 مليارات دينار منذ 2020) والارتفاع في الودائع (47.7 مليار دينار) يدل على توسع في القدرات التمويلية وتكامل متزايد بين البنوك والاقتصاد الحقيقي. التقدم في التحول الرقمي المالي، ببلوغ المدفوعات الرقمية 146% من الناتج، يؤكد القطاع المصرفي حضوره المميز في المشهد الاقتصادي من حيث "الوصول، الكفاءة، والمرونة".
النقطة الأهم تكمن في أن البنك المركزي لم يعد مجرد جهة تنظيمية، بل أصبح شريكًا استراتيجيًا في تنفيذ الرؤية الوطنية، من خلال مبادرات متقدمة في الشمول المالي والرقمنة والسياسة النقدية المرنة.
إن ما طرحه محافظ البنك المركزي ليس مجرد عرض لإنجازات مالية أو نمو اقتصادي، بل تأكيد على أن الأردن بدأ فعلياً في الخروج من دوامة الهشاشة الاقتصادية المزمنة نحو اقتصاد أكثر اعتمادًا على الذات، وأكثر قدرة على التعامل مع المستقبل بكفاءة. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في ضمان الاستمرارية المؤسسية لهذا المسار، وتعميق الشراكة مع القطاع الخاص لتوليد فرص العمل والنمو المشترك، وهي عناصر لا تُبنى فقط بالأرقام، بل بثقافة اقتصادية جديدة تعي متطلبات المرحلة القادمة!
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
31-07-2025 08:28 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |