30-07-2025 01:15 PM
بقلم : د. أجمل طويقات
في نهاية "بصمة" ... هل من بسمة؟
ثمّةَ من لا يرى في المبادراتِ الوطنيةِ إلا ثغراتٍ مفترضةً، ولا يتناولُ فكرةً جديدةً إلا وقد أشهرَ سيفَ الشكِّ في وجهِها. أولئكَ الذين لا يملّون النقدَ، لا بدافعِ الحرصِ، بل بدافعِ الاعتراضِ المزمنِ، تجدهم يُخاصمون كلَّ اجتهادٍ، ويستنكرونَ كلَّ جهدٍ، كأنّهم وُكِّلوا بإطفاءِ جذوةِ الأملِ في كلِّ مسعى.
لا غضاضةَ في النقدِ الموضوعيِّ، بل هو ضرورةٌ، لكنَّ الهدمَ من أجلِ الهدمِ لا يبني، والتشكيك الدائمَ لا يُثمرُ فكرةً ولا يحمي وطنًا.
أقولُ هذا، لا تعالِيًا في الرأي، بل إسقاطًا على جدليّةٍ تطلُّ برأسِها كلّما شُرع في الحديثِ عن أيِّ برنامجٍ وطنيٍّ هادفٍ، فتثورُ الأسئلةُ: هل نحتاجُهُ فعلًا؟ هل نملكُ بديلًا عنه؟ وهل نحنُ، أصلًا، نُجيدُ احتضانَ الفكرةِ وتنفيذَها لاجتراحِ أثرٍ يُذكَر؟
وها أنا أضعُ قلمي على عتبةِ برنامجٍ لطالما راقبتهُ، لا من كُرسيٍّ وثيرٍ في مكتبٍ، بل من مقعدِ الطالبِ في صفِّه، ومن ظلالِ الساحةِ في مدرستهِ، ومن نظرةِ الطفلِ الذي يقطعُ عطلتَهُ الصيفيَّةَ ليعودَ، معاني عدة وفعاليات فذة
إنهُ برنامجُ "بصمة"، الذي امتدَّ من قلبِ وزارةِ التربيةِ والتعليمِ إلى أطرافِ المدارسِ في العطلةِ، يزرعُ في الطلبة معنى جديدًا للعطلةِ، معنى لا يُقاسُ بعددِ الأيامِ الفارغةِ، بل بكميةِ القيمِ التي تُغرسُ، والمهاراتِ التي تُنمّى، والانتماءِ الذي يُعادُ بناؤهُ لبنةً لبنةً.
لكنّ "بصمة" لم يأتِ وحده...
قبلهُ، أو بالتوازي معه، كانتِ المدرسةُ الصيفيّةُ تمدُّ يدَها إلى الطلبةِ لتنتشلهم من فراغِ الإجازةِ وتُعيدَهم، لا إلى رتابةِ المناهجِ، بل إلى روحِ التعلُّمِ حين يُصبحُ مرنًا، ممتعًا، خفيفَ الظلِّ، بعيدًا عن روتينِ الفصلين الدراسيين.
المدرسةُ الصيفيّةُ ليستْ نسخةً باهتةً من عامٍ دراسيٍّ آخر، بل هي فصلٌ ثالثٌ فيه من الحريةِ ما يُتيحُ للطالبِ أنْ يُحسّنَ قدراتِه في العربيةِ والإنجليزيةِ والرياضياتِ، دون أنْ يشعرَ أنّهُ يكرّرُ عامَهُ، بل يُعمّقُهُ ويُعيدُ بناءَهُ في ضوءِ حاجاتِه الحقيقيّةِ.
وما بين الأنديةِ الصيفيةِ وبرنامجِ "بصمة"، يتشكّلُ فصلٌ استثنائيٌّ من ذاكرةِ الطالبِ، فصلٌ لا يُكتبُ على الورقِ، بل يُحفرُ في القلبِ:
يومٌ في مكتبةٍ متنقّلةٍ، ومغامرةٌ في نشاطٍ كشفيٍّ، وحوارٌ فكريٌّ مع زميلٍ من مدينةٍ لم يزرْها من قبل، وعَرقٌ يُسكبُ في تنظيفِ ساحةٍ مدرسيةٍ... كلُّ ذلكَ يتجاوزُ مفهومَ المهارةِ إلى حدودِ التكوينِ النفسيِّ والاجتماعيِّ.
"بصمة" ليسَ درسًا في التربيةِ المدنيّةِ فقط، بل تمرينٌ على معنى أن تكونَ جزءًا من هذا الوطنِ، أنْ تنتمي إليهِ وأنتَ تنظّفُ ساحةَ مدرستك، وتُشاركُ في نشاطٍ فنيٍّ أو كشفيٍّ، أو تحاورُ زميلًا لك في فكرةٍ، وتكتشفُ أنكَ تستطيعُ أن تقولَ رأيكَ دون أن تخسرَه.
هو ليسَ برنامجًا ترفيهيًّا خالصًا، ولا نشاطًا موسميًّا عابرًا، بل مشروعٌ تربويٌّ وطنيٌّ يحملُ في طيّاتهِ معانيَ الانضباطِ، والتعاونِ، والنظافةِ، والانتماءِ، والاعتزازِ بالهويّةِ، ويُعيدُ تعريفَ المدرسةِ كبيئةٍ حاضنةٍ للابتكارِ والتعدديّةِ والتعبيرِ الحرّ.
أجملُ ما في "بصمة" أنّهُ لم يأتِ وحده، بل جُهِزَ لهُ من مؤسسةِ وليّ العهدِ، ومن هيئةِ الانتخاباتِ، ومن وزاراتٍ شقيقةٍ، شركاءُ في الفكرةِ والتنفيذِ، كأنّ الدولةَ كلّها قررتْ أنْ تُشاركَ الطلبةَ لحظاتِ النضوجِ، وأنْ تُعيدَ هندسةَ العطلةِ الصيفيّةِ لتكونَ نقطةَ تحوُّلٍ، لا استراحةً من التعب.
وأعودُ للسؤالِ الأوّلِ...
في نهايةِ "بصمةٍ"... هل من بسمةٍ؟
أظنُّها ترتسمُ على وجهِ معلّمٍ رافقَ الطلبةَ، وعلى يدِ طفلٍ أمسكَ مقشّةً ونظَّفَ فصلًا، وعلى صفحةِ دفترٍ خطّ فيها طالبٌ فكرةَ مشروعٍ مدرسيٍّ سيكونُ لهُ شأنٌ في الغدِ القريب.
وهكذا، نكتبُ بصمتَنا... ونرسمُ بسمتَنا.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-07-2025 01:15 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |