27-07-2025 03:24 PM
بقلم : د. خالد السليمي
لعبة الخرائط المُتبدلة وغياب اليقين الاستراتيجي
في خضم عالمٍ يتغير بخطى متسارعة تدخل إسرائيل مرحلة جديدة من سياستها الاستراتيجية، تتجاوز فيها خطوط الدفاع إلى آفاق التمدد والهيمنة، لم تعُد الحدود الجغرافية سوى فكرة مؤقتة في عقل صانع القرار الإسرائيلي، بل غدت الأدوات الأمنية والسياسية تُوظَّف لفرض واقع جديد بالقوة، ومنذ السابع من تشرين الأول 2023، اتخذت إسرائيل من مجزرة غزة منصةً لإعادة صياغة معادلة الردع الإقليمية، مستفيدةً من الغطاء الغربي وتردد بعض الأنظمة العربية في اتخاذ مواقف حاسمة، وها هي تفتح على نفسها جبهات متعددة، في الجنوب والشمال، وفي العمق الإقليمي، وكأنها تسابق الزمن لرسم خريطة جديدة على أنقاض الوضع القديم.
من دبلوماسية التطبيع إلى أحلام التقسيم
منذ توقيع "اتفاقيات أبراهام" عام 2020 تحركت إسرائيل نحو بناء شبكة تحالفات أمنية واقتصادية مع دول عربية تحت عنوان "السلام"، لكنها في الحقيقة كانت تزرع بذور التغلغل الاستراتيجي، فبالنسبة لإسرائيل، السلام ليس نهاية الحرب، بل مرحلة لإعادة التموضع، استخدمت تل أبيب تلك الاتفاقيات لشرعنة وجودها الإقليمي، وفي الوقت ذاته لتقويض العمق العربي من الداخل، تسللت إلى المنظومات التكنولوجية، والنسيج الاجتماعي، وسعت إلى تحويل التطبيع من خيار سياسي إلى واقع أمني استراتيجي يخدم أطماعها في التوسع والهيمنة.
غزة... بداية الزلزال
جاءت عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023 بمثابة الزلزال الذي أطاح بأسس الرواية الأمنية الإسرائيلية، لم تكن مُجرد اختراق أمني، بل لحظة سقوط كامل لأسطورة "الجيش الذي لا يُقهر"، وما تبعها من حملة إبادة همجية على غزة، أسفرت عن استشهاد أكثر من 59 ألف فلسطيني، وأكثر من 145 ألف إصابة حتى تموز 2025، حيثُ كانت انعكاساً لحالة الهلع الاستراتيجي داخل إسرائيل، لجأت إلى سياسة الأرض المحروقة، وقصفت المدنيين والمستشفيات وحتى قوافل المساعدات، تحت غطاء صمت دولي مريب، لكن المقاومة، رغم الحصار والقصف، ظلّت تقاتل، وتعيد تعريف مفاهيم الصمود والردع، وتفرض معادلة جديدة.
تمدُد الجبهة الشمالية وتفكك الجبهة الداخلية
منذ تشرين الثاني 2023، بدأت جبهة الشمال تشتعل تدريجياً، حيث دخل حزب الله اللبناني المعركة بشكل تكتيكي، أربك الحسابات الإسرائيلية، وأجبر الجيش الإسرائيلي على إعادة تموضعه، ومع تهديدات الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله بتوسيع الضربات لتشمل العمق الإسرائيلي، بدأت المستوطنات في الجليل الأعلى تُخلى، ومناطق صناعية حيوية تُغلق، في الوقت ذاته، تعيش الجبهة الداخلية الإسرائيلية حالة من الهشاشة والانقسام السياسي، في ظل تراجع ثقة الجمهور بقيادة نتنياهو وتآكل شرعيته، وقد حذر الجنرال عاموس يادلين (الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية) في كانون الأول 2023 من أن "إسرائيل تخسر معركة الشرعية الدولية وتخوض حرباً على أكثر من جبهة بلا أفق سياسي".
الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن... شريك في الجريمة بالصمت والتسليح
خلال فترة حكم الرئيس جو بايدن، تحولت الولايات المتحدة من "وسيط نزيه" إلى شريك مباشر في العدوان على غزة، فقد أرسل بايدن في تشرين الأول 2023 حاملة الطائرات "جيرالد فورد" إلى البحر المتوسط، ووافق على تزويد إسرائيل بأكثر من 14 مليار دولار كمساعدات عسكرية إضافية، التقطت العدسات دموعه المصطنعة في تل أبيب، بينما كانت طائرات (F-35) تقصف مخيمات اللاجئين في رفح وخان يونس، ومع ذلك، تجاهل بايدن دعوات وقف إطلاق النار، ورفض الاعتراف بجرائم الحرب، بل استخدم الفيتو الأمريكي ضد قرارات وقف العدوان في مجلس الأمن أكثر من خمس مرات خلال ستة أشهر.
ترامب يعود... وموقف مختلف من المغامرات الإسرائيلية
عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني 2025 غيّرت ملامح التوازن السياسي الأمريكي-الإسرائيلي، ورغم أن ترامب يُعرف بدعمه لإسرائيل، إلا أن تصريحاته الأخيرة أظهرت اختلافاً في مقاربة الأزمة، ففي آذار 2025، صرح في مقابلة مع(Fox News) : نتنياهو فقد السيطرة، والعدوان على غزة أضرّ بمصالحنا مع الدول العربية، نحن نحتاج إعادة تقييم علاقتنا بالمغامرات الإسرائيلية"، هذه اللغة الصادمة دفعت وسائل إعلام إسرائيلية إلى مهاجمته، فيما بدأت دوائر القرار في تل أبيب بالتوجس من انفكاك الغطاء الأمريكي الكامل، مما قد يُحدث شرخاً استراتيجياً في تحالفهما التاريخي.
خطر التمدد إلى الأردن وسيناريوهات الرد
التقارير الاستخبارية الغربية بدأت تحذّر من محاولة إسرائيلية للتلاعب بالحدود الشرقية، وخلق ظروف تمهّد لفرض "ترانسفير ناعم" لسكان غزة والضفة إلى الأردن، السيناريو ليس جديداً، بل تعود جذوره إلى خطة إيغال ألون (1967) وتصريحات أفيغدور ليبرمان عام 2013 حين قال: "الأردن هو فلسطين، والحل هناك"، وفي آذار 2025، تم ضبط طائرات مسيّرة إسرائيلية قرب الحدود الأردنية، ما اعتُبر رسالة اختبارية، وقد أكدت مصادر أمنية أردنية حينها أن "أي اعتداء سيتم الرد عليه فوراً، وبما يفوق حجم التوقع"، هذا التصعيد يتطلب جهوزية استراتيجية وموقفاً دولياً واضحاً.
السيناريوهات المتوقعة... ما بعد الزلزال
في ظل التصعيد المستمر، ثمة سيناريوهات متعددة تتشكل على طاولة صناع القرار في المنطقة، الأول: استمرار العدوان الإسرائيلي وتمدده نحو الحدود مع لبنان وسوريا، مما قد يؤدي إلى حرب إقليمية مفتوحة، الثاني: محاولة فرض تهجير قسري جزئي أو كامل للفلسطينيين نحو الأردن وسيناء، تحت ذرائع إنسانية، الثالث: انهيار الداخل الإسرائيلي نتيجة الانقسام السياسي وفقدان الثقة بقيادة نتنياهو، مما يفتح الباب لانتخابات مبكرة، أما الرابع، فهو سيناريو التدويل، حيث تدخل قوى كبرى على الخط بفرض تسوية جديدة، جميع هذه السيناريوهات تحمل تهديدات وجودية تتطلب استشرافاً استباقياً وتحالفات إقليمية وقرارات سيادية حاسمة.
الأردن والموقف الثابت في وجه التمدد الإسرائيلي
رغم الضغوط الإقليمية والدولية، ظل الأردن، بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، صامداً في وجه محاولات تصدير الأزمة الإسرائيلية إلى دول الجوار، لم ينجرّ الأردن إلى أي محاور تخدم أجندات طائفية أو ميليشيائية، بل اختار الدفاع عن القدس والمقدسات بهدوء القوة وعقلانية الرد، وقف الأردن في وجه مخططات التهجير القسري في غزة والضفة الغربية، وأكد في جميع المحافل أن الأمن القومي الأردني والفلسطيني لا يمكن تجزئته، وفي رسالة واضحة، قال جلالة الملك خلال القمة العربية في الرياض عام 2024: "لن نسمح بأن يُعاد تشكيل المنطقة على حسابنا، ولن نكون وطناً بديلاً".
حكمة جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسن في هندسة التوازن الإقليمي
في لحظة يغيب فيها العقل الاستراتيجي عن بعض عواصم القرار، يبرز جلالة الملك عبدالله الثاني كصوتٍ عاقل يقود منطق التوازن لا الانجرار، لم يسقط في فخ الانفعال، بل سعى إلى تأمين الجبهة الداخلية، وتعزيز الجبهة الدبلوماسية، وحشد الرأي العام العالمي ضد العدوان على غزة، وخلال زيارته إلى برلين في أبريل 2025، قال بوضوح: "السلام لا يولد من رحم القتل، ولا من ركام المدن المدمرة"، هذه الحكمة جعلت الأردن اليوم مركز توازن إقليمي، ومحور استقرار في بيئةٍ تموج بالصراعات.
التوصيات الاستراتيجية لمواجهة مرحلة ما بعد أكتوبر:
1. تعزيز وحدة الموقف العربي من خلال قمة طارئة تضع خطوطاً حمراء أمام أي محاولة تهجير أو تقسيم.
2. تحصين الجبهة الداخلية الأردنية أمنياً وسياسياً وإعلامياً، والتصدي لأي محاولات اختراق.
3. إعادة صياغة الخطاب الإعلامي العربي لكشف جرائم الاحتلال وفضح داعميه.
4. المطالبة بتحقيق دولي مستقل في جرائم الحرب في غزة بموجب القانون الدولي.
5. التحرك العربي نحو مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية بمبادرة جماعية.
6. مراجعة اتفاقيات السلام والتطبيع والتهديد الحقيقي بتجميدها حتى وقف العدوان والانسحاب من الأراضي المحتلة.
7. الاستعداد العسكري والاستخباري لأي سيناريو مفاجئ من الجانب الإسرائيلي.
8. دعم جهود جلالة الملك عبدالله الثاني في حماية القدس ورفض الوطن البديل كعقيدة وطنية لا مساومة عليها.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
27-07-2025 03:24 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |