08-07-2025 08:27 AM
بقلم : ماجد الفاعوري
انهيار الدولة أمام الزمرة الرقمية وصعود إسرائيكا كقوة خفية لإعادة إنتاج الفوضى
في البداية كان الحلم العربي المكسور يبحث عن روافع تعيد له صوته الجمعي وعن ساحة موحدة تقف في وجه الامبراطوريات الطامعة والوصايات المتعاقبة على الجغرافيا وعلى الذاكرة وكانت الشعارات التي خرجت من قطاع غزة تتحدث عن وحدة الساحات وكان البعض في بيروت ودمشق وصنعاء يلوّحون بها كما لو أنها الإنجاز العربي الأخير في زمن الهزيمة لكن ما إن ارتفعت أصوات هذه الشعارات حتى انكشفت هشاشتها وافتضح أمرها فهي لم تكن وحدة فعلية قائمة على وحدة المشروع ولا وحدة القرار ولا حتى وحدة الأعداء بل كانت مسرحية من صناعة الزمرة نفسها تلك التي حولت النكسة إلى انتصار افتراضي وبثت عبر آلاف المنصات والصفحات خطابا شعبويا يوهم الجمهور بأنه في قلب المعركة وهو لا يملك من أمره إلا الصراخ والتفاعل الرقمي
لقد تحولت وحدة الساحات إلى وحدة الانتكاسات لأن من أمسك بزمام الخطاب لم يكن المفكر ولا الاستراتيجي ولا رجل الدولة بل كان رجال الدين الذين اختطفوا الفضاء الرقمي وأدمنوا توجيه الجماهير نحو الأمل الكاذب هؤلاء لم يدخلوا ساحة القتال بل دخلوا غرفة البث المباشر وبدؤوا بتوزيع صكوك البطولة والنصر وكأنهم وكلاء الله في السياسة ووكلاء الأرض في السماء ومن خلف الشاشات بدأ التوجيه وبدأت صناعة الوعي البديل الذي لا يرى الحقائق ولا يعترف بالأرض بل يؤمن فقط بما تقوله الشعارات وتعيد بثه المنصات وقد ساد خطاب الزمرة لأن الدولة كانت غائبة أو متواطئة أو عاجزة
الدولة التي يفترض أن تكون حامية للوعي ومؤسسة للتماسك المجتمعي انسحبت من معركتها مع الجهل وتركت الباب مفتوحا للزمرة الرقمية التي لا تعرف مسؤولية ولا تعترف بمواطنة وتحولت إلى صوت عال يغطي على كل شيء صوت يشيطن الدولة إذا انتقدته ويخون كل من يقف ضد صعوده وصوت يجد في كل سلطة وطنية خصما وعدوا في حين يصمت تماماً أمام الدمار الإيراني ويبرر الجرائم الحوثية ويهلل لمليشيات القتل في سوريا والعراق ولبنان ويعتبر كل من يقف في وجه هذه القوى عميلا أو صهيونيا حتى لو كان سلاحه لا يزال دافئا ودمه لم يجف على رمل الحدود
لقد سمحت الأنظمة السياسية بأن تكون الحرية انتقائية وبأن يتحول مفهومها من أداة بناء إلى شعار أجوف يسكن الدستور ولا يسكن الواقع فتراجعت المشاركة السياسية واحتكر القرار وتكرست الأجهزة البيروقراطية وأصبح الخط الأحمر قانونا غير مكتوب يخنق كل من يقترب من فكرة التغيير وهكذا خلقت الدولة من حيث لا تدري وحشا موازيا اسمه الزمرة هذه الزمرة بدأت كصوت ديني ثم أصبحت صوتا سياسيا ثم تمددت لتصبح نسخة رقمية من الدولة الموازية التي لا تملك الأرض لكنها تملك المنصات ولا تملك الجيش لكنها تملك القدرة على تحويل الشارع من ساحات الاحتجاج إلى ساحات الهاشتاغ ومن الفعل إلى ردة الفعل ومن التخطيط إلى الهذيان العاطفي
ولم يكن كل هذا ليتحقق لولا تحالف إسرائيكا ذلك التحالف غير العضوي بين إسرائيل والولايات المتحدة وتيارات الإسلام السياسي وهو تحالف لا يُقال عنه الكثير لكنه يفعل الكثير ففي حين تحارب الأنظمة العربية الجريمة المنظمة وتنظيمات التطرف بالسلاح نجد أن هذا التحالف يغذي هذه التنظيمات من الخلف ويدير معركته على الوعي لا على الأرض فهو لا يحتاج إلى احتلال عسكري مادام قادرا على تفكيك الهوية وتدمير الثقة بالمؤسسات وصناعة رموز وهمية تُقدّم كبديل عن الدولة وتاريخها وكل هذا تحت يافطة المقاومة والشهادة والمظلومية الموروثة
إسرائيكا لم تعد مجرد مشروع خارجي بل أصبحت حاضرا في وعينا وقد نمت في ظل خطاب الزمرة لأنها وجدت أن هذه الجماعة قادرة على أن تسوّق مشروعها دون أن تطلق رصاصة واحدة وأن تنجز ما لم ينجزه الموساد عبر التفخيخ الثقافي والسياسي والأخلاقي وهي من حيث لا تدري تصنع دولة الكيان وتُضعف الدولة العربية وتحول كل من ينتقد خطابها إلى عدو وتعيد صياغة الصراع من كونه مع احتلال إلى كونه مع خصوم الداخل الذين لا يرفعون شعاراتها ولا يلبسون عباءتها
إن البيئة التي تنتج هذا الخطاب الرقمي لا تنشأ فجأة بل تنشأ حين تفرغ الدولة من أدوارها الاجتماعية وحين تترك الفقر يتمدد بلا رادع وحين تغلق المؤسسات الثقافية أو تتحول إلى أبواق رسمية لا تثير الأسئلة بل تكرر الإجابات وحين يُمنع النقاش ويُهاجم المثقف وتُخون النخب فحينها فقط يصبح المواطن جاهزا لتلقي الفتوى مكان المعلومة ولتصديق العاطفة مكان التحليل وللانتماء إلى الشيخ أكثر من انتمائه إلى الدولة
ورجال الدين في هذا السياق ليسوا مجرد فاعلين اجتماعيين بل هم أدوات سياسية تستغل العلاقة المقدسة بين الإنسان وربه وتحوّلها إلى سلطة زمنية تخترق المؤسسات وتنشئ شبكاتها وتسيطر على الساحة وتحرض الناس على القوانين بحجة أنها لا تطبق الشريعة ثم تطلب منهم الدفاع عن نظام شبيه بالميليشيا لأنه يرفع ذات الشعارات التي يقدسونها
وهكذا تبدأ دورة كاملة من تفريغ المجتمع من الداخل حيث لا يعود المواطن يثق بالدولة ولا بالنظام ولا بالمؤسسة ولا بالقانون ويصبح مستعدا لتسليم مصيره لرمز رقمي أو شيخ إلكتروني أو فقيه بلا فقه يتحرك وفق التمويل وينطق باسم الحلفاء ويصوغ الموقف السياسي من زاوية الولاء لا من زاوية المصلحة الوطنية
لقد تحولت الزمرة إلى فاعل سياسي حقيقي لأنها انتصرت في معركة الإدراك لا معركة السيطرة فالمجتمعات العربية التي أُنهكت بالفقر والبطالة وتهميش الشباب وتقييد النساء وانسداد الأفق السياسي كانت جاهزة تمامًا لتلقي هذا الخطاب العاطفي وتبنيه كعقيدة جديدة وهذا ما يفسر كيف أن خطاب الإخوان وحلفائهم انتشر بين المهمشين والفقراء والعاطلين عن العمل بينما غاب المشروع التنويري الذي كان يمكن أن يحرر هؤلاء من السقوط في فخ الشعارات
والمفارقة أن الأنظمة السياسية كانت تمتلك كل الأدوات لتفكيك هذا الخطاب لكنها فضلت مواجهته أمنيًا لا معرفيًا فكانت النتيجة أن الخطاب تمدد في الخفاء واستغل قنوات التواصل وسخر الدين والهوية والمظلومية وصنع سردياته الجديدة وأعاد ترتيب المشهد لصالحه دون أن يطلق رصاصة واحدة لقد أدرك أن الفضاء الرقمي أخطر من السلاح وأن الوعي أخطر من أي ذخيرة فاستثمر في العقل الباطن للمجتمع لا في معاركه الخارجية
وما لم يتم إنتاج مشروع عربي بديل واضح الرؤية قوي الوسيلة جاد في تكريس الحريات لا بوصفها امتيازًا بل كحق دستوري وما لم تُستعد ثقة المواطن بمؤسسات الدولة وما لم يتم تحييد مؤسسات الدين عن الاستثمار السياسي وما لم تتم محاسبة الأجهزة الإدارية التي تحولت إلى مافيات قانونية تستثمر في الفساد وتحمى تحت شعار الاستقرار فإن الزمرة ستبقى هي البديل وستبقى وحدة الساحات مجرد غطاء لوحدة الانتكاسات
فالمعركة الحقيقية ليست مع الزمرة وحدها بل مع كل ما أنتجها مع منظومة الفساد الإداري والتشريعي ومع التواطؤ الصامت من النخب ومع غياب الحرية الفعلية ومع تشويه المفاهيم ومع تقزيم دور المواطن وتحويله من فاعل سياسي إلى متلقٍ مفعول به
الوعي العربي لا يموت لكنه يُخدر وحين يستفيق يدرك أنه كان مجرد جندي في معركة غيره وأن من رفعوا شعارات المقاومة لم يقاتلوا إلا في المساحات التي تسمح لهم بالمزايدة وأن من بشروا بالتحرير لم يغادروا فنادقهم وأن من نصبوا أنفسهم وكلاء الله لم يعرفوا يوما طعم الخوف أو الجوع أو الحصار بل استخدموا كل ذلك ليصنعوا لأنفسهم سلطة بديلة يتنقلون بها بين الأنظمة ويبيعونها تحت عنوان النصح الديني بينما هم في الحقيقة يديرون شبكة من العلاقات والمصالح تتجاوز حدود الدول وتخترق الأمن والمجتمع والهوية
نحن لا نواجه خطرا خطابيا فقط بل نواجه انقلابا على كل ما يمكن أن يبني الدولة والمجتمع نواجه بنية من الأفكار والشبكات والتمويل والآليات والرموز التي تُدار باحتراف وتتحرك بخفة وتُعيد تدوير الخراب في كل ساحة تدخلها تحت عنوان الوحدة لكنها تخرج منها بعناوين الدمار
والمعادلة باتت واضحة إما أن نعيد إنتاج العقل العربي بمشروع يرقى إلى تحديات اللحظة وإما أن نبقى أسرى لهذا التيه الديني الرقمي الذي لا يملك سوى العاطفة ويعيدنا كل مرة إلى ذات الهزيمة لأن انتصاره ليس بتحرير الأرض بل باحتلال العقول
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
08-07-2025 08:27 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |