30-06-2025 04:56 PM
بقلم : د. خالد حسين العمري
خبير في القياس النفسي والتقويم التربوي – مستشار في تصميم أنظمة التقييم وبنوك الأسئلة
حديثي هنا ليس لهذه الدورة الامتحانية بل بشكل عام ، فقبل أسبوعين اتصل في قريبي ليخبرني أن ابنه (طالب التوجيهي) في المستشفى وأن الطبيب يجد أن نبض القلب غير منتظم ولا بد من دخوله للمراقبة، ذهبت مسرعا إليه لأجد أن كل ما يعانيه ويهدد حياته بسبب القلق والتوتر من قُرب امتحانات الثانوية العامة، واحسرتاه كيف نؤذي أبناءنا بأيدينا!!! مع كل عام دراسي، يعود امتحان الثانوية العامة (التوجيهي) ليحتل الصدارة في البيوت، والمدارس، ومواقع التواصل، وسط ترقب مشحون من قبل الطلبة وأهاليهم، باعتباره "امتحان العمر" الذي سيُحدّد مستقبل الطالب التعليمي والمهني. لكن خلف هذا المشهد العام، هناك آثار نفسية عميقة ومستترة تتغلغل في وجدان الطالب وأسرته، وقد تترك ندوبًا طويلة الأمد، يُغفلها الكثير من صنّاع القرار التربوي. فما الذي تفعله الثقافة المبالغ فيها حول التوجيهي في نفوس أبنائنا؟
أولًا: تشويه الثقة بالنفس وتثبيط الدافعية
الاعتماد على امتحان واحد يقرر مستقبل الطالب يُولّد شعورًا خانقًا بالخوف من الفشل، ويضع الطالب في حالة استنفار دائم. عند مواجهة أسئلة صعبة أو غير مألوفة، تتزعزع ثقته بنفسه فورًا، ويشعر كأن مجهوده خلال السنة ضاع سدى.
هذا التشكيك الذاتي قد يمتد لما بعد التوجيهي، في الحياة الجامعية والعملية، فيُصبح الطالب مترددًا، خائفًا من المحاولة، أو فاقدًا لحماسه للتعلّم، ظنًا أنه "ليس جيدًا بما فيه الكفاية".
ثانيًا: اضطرابات نفسية ما بعد الاختبار
كثير من الطلبة يُظهرون أعراضًا تشبه اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD):
• كوابيس متكررة،
• قلق مستمر،
• تجنّب الحديث عن الامتحانات،
• أعراض جسدية مرتبطة بالتوتر (كاضطرابات المعدة والصداع).
في بعض الحالات، يحتاج الطالب إلى تدخل نفسي متخصص لاستعادة توازنه العاطفي.
ثالثًا: اختزال قيمة الطالب في "رقم"
تركيز المجتمع المفرط على المعدّل يولّد لدى الطالب قناعة بأن قيمته تُقاس فقط بعلاماته. وهذا تصور مشوَّه، يُهمّش المهارات الحقيقية مثل الإبداع، التفكير النقدي، الذكاء العاطفي، والتواصل، وينشأ جيل يربط بين الحب والتقدير والنجاح فقط بالتحصيل الأكاديمي، مما يُضعف قدرته على تقبّل الفشل والتعلّم منه.
رابعًا: تدمير التوجيه المهني السليم
بسبب نظام القبول الجامعي القائم على المعدل فقط، يضطر الطالب لاختيار تخصصات لا تعبّر عن شغفه ولا قدراته، بل فقط ما يتناسب مع نتيجته. والنتيجة:
• انعدام الدافعية،
• انخفاض معدلات النجاح الجامعي،
• تسرب أكاديمي،
• شعور دائم بالاغتراب عن الذات والطريق المهني.
خامسًا: صدمة الأهل وتفكك الدعم الأسري
الأثر النفسي لا يقتصر على الطالب، بل يمتد لأسرته، التي تربط نجاحها المجتمعي بنجاح ابنها أو ابنتها في التوجيهي.
في حال جاءت النتيجة مخيبة، يدخل الأهل في دوامة من الحزن، وربما الصمت المؤلم، أو اللوم القاسي، مما يزيد عزلة الطالب ويدفعه نحو الإحباط أو الشعور بالذنب. وتتحوّل الأسرة من مصدر أمان إلى بيئة ضغط، تفقد قدرتها على دعم الطالب نفسيًا في مرحلة حرجة.
سادسًا: الانعكاسات المجتمعية والوصمة
يتعرّض الطلبة الذين لم يحققوا معدلات مرتفعة لنظرات شفقة أو سخرية من المجتمع. وتنتشر عبارات محبطة مثل:
"فلان ابن فلان ما نجح؟"، "ضيّعت تعب أهلك"، "خسارة فيك". هذه الوصمة الاجتماعية تخلق شعورًا بالخجل والعار، وتدفع بعض الطلبة إلى العزلة أو الانغلاق، أو حتى السلوك العدواني أحيانًا.
سابعًا: امتداد الأثر للجامعة وسوق العمل
الطالب الذي تعرّض لصدمات نفسية خلال التوجيهي غالبًا ما يدخل الجامعة بشخصية هشّة، فاقدة للثقة، ومُثقَلة بالمخاوف. وقد يُعيد تجربة التوجيهي في كل امتحان جامعي، ما يؤدي إلى قلق امتحاني مزمن، وهروب من التحديات، أو حتى انسحاب تدريجي من الدراسة.
الخلاصة: نحو نظام تقييمي إنساني ومتعدد الأبعاد
ما يحتاجه الطالب اليوم ليس امتحانًا واحدًا يحكم عليه للأبد، بل نظامًا عادلاً يتيح له فرصًا متعددة ليُظهر قدراته على مدار سنوات. نقترح:
• اعتماد تقييم تراكمي يراعي الأداء عبر السنوات.
• تنويع أدوات التقييم (مشاريع، ملاحظات، مقابلات).
• إدخال التوجيه المهني المبكر المبني على الميول.
• دمج خدمات الدعم النفسي في المدارس.
• تثقيف الأسرة والمجتمع بأهمية دعم الطالب دون ضغط أو وصم.
النجاح لا يُقاس في ثلاث ساعات أو ساعتين بامتحان ما، والمستقبل لا يُحدد بورقة امتحان. بل يُبنى بثقة، ودعم، ونظام تربوي يرى في الطالب إنسانًا أولًا، ومتعلمًا ثانيًا.
ولكم التقدير
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-06-2025 04:56 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |