26-06-2025 01:30 PM
بقلم : د. خالد السليمي
في خضم نيران الحرب التي لم تنطفئ بعد، وفي زخم كمائن المقاومة التي أبهرت حتى أكثر المحللين العسكريين حذراً، تطفو على السطح نغمة جديدة: "التهدئة قريبة"، تصريحات متكررة من إدارة ترامب، وتسريبات صهيونية عن إنهاك الجبهة الداخلية، يُراد لها أن تبدو كبشارة نهاية حرب، لكنها تحمل في طيّاتها ما هو أخطر بكثير: مشروع إعادة صياغة المعركة، لا بوقف النار بل بتحييد النصر، هل اقتربنا من لحظة نصر فلسطيني يؤسس لتحول استراتيجي؟ أم أن غزة، التي صمدت بدمها وإرادتها، تُساق الآن إلى طاولة حصار سياسي يُراد له أن يُلبس الهزيمة ثوب التفاهم؟ ما نحن بصدده ليس مجرد لحظة مفاوضات، بل لحظة مفصلية بين النصر والاحتواء، بين التحرر والمقايضة.
غزة: المقاومة التي غيّرت معادلات الردع
ما قدّمته غزة منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم لم يكن تكراراً لما سبق، بل قفزة نوعية في فكر المقاومة، وتكتيكها، وقدرتها على استنزاف العدو في ميادين متعددة: من الأنفاق إلى الكمائن المباشرة، إلى استدراج وحدات النخبة في بيئة مفخخة بالمفاجآت، لقد خسرت إسرائيل أكثر من 650 جندياً باعترافاتها، وتكتمت على أضعافهم، عشرات القادة الميدانيين قُتلوا، وكتيبة "الناحال" تحولت إلى رمز الإخفاق العسكري، هذه ليست مجرد خسائر، بل انهيار لمنظومة الردع التي طالما تغنت بها تل أبيب، الأهم، أن غزة باتت لاعباً إقليمياً يُحسب له الحساب، لا مجرد مربع محاصر.
الانهيار الداخلي الإسرائيلي: جبهة الداخل المُتصدعة
بات من الواضح أن المجتمع الصهيوني لم يعد يتحمل كُلفة الحرب المفتوحة، مظاهرات متواصلة، واحتجاجات عائلات الجنود المختطفين، وانقسامات سياسية داخل حكومة الاحتلال، جعلت نتنياهو يتحدث عن "ثمن مرير" قد يدفعه الإسرائيليون، بينما تتحدث مراكز أبحاث كـ"INSS" و "بيغن السادات" عن خطر الانهيار المجتمعي إن استمرت الحرب لأشهر أخرى، استطلاع للرأي أظهر أن 62% من الإسرائيليين باتوا يؤيدون صفقة تبادل ووقف الحرب، وهو ما يكشف أن الجبهة الداخلية باتت أخطر من صواريخ غزة، وأنّ المعركة تحسم من داخل تل أبيب لا من حدود القطاع.
المقاومة وصمت النار: تكتيك أم انتظار اللحظة السياسية؟
رغم القوة العسكرية التي أظهرتها المقاومة، إلا أن فصائلها وعلى رأسها كتائب القسام وسرايا القدس دخلت في مرحلة ما يمكن وصفه بـ "الصمت التكتيكي"، فالضربات النوعية قلت وتيرتها، والبيانات الرسمية نُدرت، ما يُشير إلى إعادة ترتيب داخلي وانتظار لتبلور المسار السياسي، هذا ليس تراجعاً، بل قراءة دقيقة لمرحلة ما بعد الإنجاز العسكري، حيث تفهم المقاومة أن توقيت التحرك الإعلامي والسياسي لا يقل أهمية عن توقيت إطلاق الصاروخ، لذلك، هي تختزن أوراقها الكبرى، وتختبر نضج الوسطاء، وتحاول ضمان أن التهدئة (إن وقعت) لن تكون تنازلاً، بل تتويجاً لصمودها.
واشنطن ما بعد الضربة: صفقة أم مصيدة؟
منذ الضربة الأمريكية للمفاعلات النووية الإيرانية، كثُر الحديث عن تفاهمات إقليمية تشمل غزة، وكأن ما يُراد هو إغلاق كل جبهات الإرباك قبل الدخول في مواجهة كبرى مع محور المقاومة، ترامب وويتيكوف يروّجان لـ "اتفاق تاريخي" يُعيد التهدئة مقابل إعادة الإعمار، لكن دون ضمانات حقيقية بعدم تكرار العدوان أو رفع الحصار كلياً، التوقيت مثير للريبة، والضغط على المقاومة للقبول بشروط غامضة يعني أنّ واشنطن تُجهّز لمشهد ختامي شكلي، يخدم صورة ترامب الانتخابية، ولا يُنصف الدم الفلسطيني، في هذا السياق، أي تهدئة دون ضمانات جادة ستكون فخاً يُفرغ النصر من معناه.
من أوسلو إلى 2025: التكرار القاتل لتجربة التفاوض
منذ أوسلو 1993، مرّ الفلسطينيون بسلسلة اتفاقات تهدئة كانت في معظمها إعادة تدوير للهزيمة بأسماء مختلفة، فالتفاهمات التي أعقبت حروب (2008، 2012، 2014) وحتى (2021)، كانت تؤدي إلى التبريد لا إلى التغيير، المطلوب اليوم ليس اتفاقاً يُسكت المدافع، بل يحرر الإرادة، غزة ليست بحاجة لمساعدات مشروطة، بل لفك الحصار، واعتراف دولي بمشروعها التحرري، التجارب السابقة تعلّمنا أن الاحتلال يُوقِّع عندما يُهزم، ويُماطل عندما ينجو، لذلك، أي اتفاق جديد يجب أن يُصاغ بلغة المنتصر، لا بمنطق من يسعى للبقاء على قيد الحياة السياسية.
النصر العسكري لا يكفي: كيف نمنع اختطاف الإنجاز؟
المقاومة ربحت ميدانياً، لكن التاريخ يثبت أن من لا يربح في السياسة يخسر كل ما سبق، كثير من الحركات الثورية انتصرت في الميدان وخُدعت على الطاولة، اليوم، هناك خطر حقيقي أن تُختطف ثمار هذا الإنجاز لصالح تفاهمات تُعيد إنتاج الحصار بنُسخة أكثر ليونة، المطلوب من قيادة المقاومة ومعها النخب الداعمة أن تُحدد شروطاً واضحة: رفع كامل للحصار، وقف دائم للعدوان، وضمانات دولية، لا يجب أن تخاف من التفاوض، لكن يجب أن تخاف من التفاوض بلا أوراق ضغط، أو من توقيع اتفاق لا يليق بدماء آلاف الشهداء الذين صمدوا تحت القصف والجوع والنار.
فلسطين والعرب: غياب المشروع ومحدودية التفاعل
رغم فظاعة المجازر، لا يزال التفاعل العربي (الشعبي والرسمي) أقل من مستوى التحدي، الأنظمة غارقة في حساباتها، والشعوب مُنهكة بالصراعات، ما جعل المقاومة تقاتل وحدها تقريباً، لا وجود فعلي لمحور دعم حقيقي، بل مجرد بيانات ومواقف رمزية، هذا الغياب يُحمّل المقاومة أكثر من طاقتها، ويُعرّض إنجازها للاختطاف الدولي، لذا، فإن أي تحرك قادم يجب أن يسعى لتفعيل المشروع الفلسطيني التحرري ضمن دعم إقليمي حقيقي، لا أن يُترك للمساومة أو يُختزل في معركة تفاوض، المطلوب الآن ليس فقط نزع سلاح العدو، بل نزع الوهم من رؤوسنا: وحدها المقاومة من يُمكن أن تصنع المعادلة.
هل التهدئة تتويج للنصر أم طوق نجاة للعدو؟
التهدئة المرتقبة تُسوّق إعلامياً على أنها إنجاز إنساني، لكن في عمقها السياسي قد تكون طوق نجاة لجيش الاحتلال من مستنقع غزة، فبعد قرابة السنتين من الحرب، لم تحقق إسرائيل أهدافها، بل خسرت معنوياً وأمنياً، وأظهرت عجزاً غير مسبوق، وبالتالي، فإن التهدئة قد تكون في ظاهرها وقفاً لإطلاق النار، لكنها في جوهرها إعادة تموضع للعدو، واستراحة محارب يستعد لمعركة قادمة، لذلك، يجب التعامل معها كجزء من المعركة، لا نهايتها، قبول التهدئة لا يعني نهاية النضال، بل بداية مرحلة جديدة من الكفاح السياسي والدبلوماسي، تحفظ الإنجاز وتمنع الانكسار.
الخاتمة
غزة لم تُهزم عسكرياً، لكنها تُواجه اليوم اختباراً أخطر: هل يمكنها أن تُدير نصرها بحكمة سياسية تُحصّنه من الاختطاف؟ ما يُطبخ في غرف المفاوضات ليس مجرد تهدئة، بل مشروع لإعادة هندسة الصراع، والرهان الأكبر أن تدرك المقاومة أن الحفاظ على الكرامة لا يقل صعوبة عن انتزاعها، نحن أمام مفترق تاريخي، تتقاطع فيه الدماء مع الحسابات، والانتصار مع الفخ، وفي هذه اللحظة، على الشعب الفلسطيني وكل من آمن بخيار المقاومة أن يرفع صوته: لا تهدئة بلا كرامة، ولا نصر يُستكمل إلا إذا وُثّق في وجدان الأمة، لا في أوراق الوسطاء.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-06-2025 01:30 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |