11-06-2025 11:53 PM
د. شادية خريسات: لا يحتاج الوسواس القهري إلى أبواب موصدة أو جدران عالية ليحاصر الإنسان... يكفيه عقل نشيط، وضمير يقظ أكثر مما يجب، وخوف لا يُغلق عينيه أبدًا.
في أعماق كثير من الأشخاص، تعيش معركة يومية صامتة، لا يسمعها من حولهم، لكنها تستهلكهم في كل لحظة. تبدأ بفكرة صغيرة، تتسلل بخفة، تهمس: "هل أغلقت الباب؟" ثم تتحول إلى طوفان لا يرحم: "هل أعدت التأكد؟ ماذا لو حدث مكروه؟ ماذا لو كان الخطأ منك؟"
الوسواس القهري ليس مجرد "قلق زائد" أو "حب للنظام"، بل هو سجن ذهني قاسٍ، يدفع صاحبه لتكرار أفعال لا يريدها، والتفكير في سيناريوهات لا يحتملها، فقط ليهدأ داخله... ولا يهدأ.
رأيت في عملي أشخاصًا يمضون ساعات طويلة في غسل أيديهم، لا لأنهم وسخون، بل لأن عقلهم يقنعهم أنهم كذلك. رأيت أمهات يتفقدن أطفالهن عشرات المرات في الليل، لا لأن الطفل يبكي، بل لأن "فكرة" قاسية تقول: "ماذا لو مات وهو نائم؟" تطرق باب الأمومة بلا رحمة.
الوسواس القهري لا يصرخ، بل يهمس بصوت مزعج لا ينتهي. لا يضرب، لكنه يطعن بالشك المستمر. لا يُظهر نفسه بسهولة، بل يختبئ خلف سلوكيات "منطقية" تبدو للناس عادية، لكنها مرهقة لصاحبها حد الانهيار.
والمؤلم أكثر؟ هو أن المصاب يعلم، يدرك أن أفكاره غير منطقية، أن تصرفاته مبالغ بها، لكنه لا يستطيع أن يتوقف. وهذا ما يجعل الوسواس القهري عدوًا صعبًا... لا يُقهر بالإقناع وحده، ولا يُشفى بتجاهله، لأنه لا ينبع من قلة وعي، بل من خلل في دائرة الخوف والطمأنينة داخل الدماغ.
لذلك، يبدأ الطريق الحقيقي نحو التحرر من هذا السجن، حين يقرر المصاب التوقف عن مسايرة وسواسه، لا بالرفض الصريح، بل بالمواجهة الصامتة الذكية.
أن يختار أن يقاوم التكرار ولو مرة واحدة، أن يبقى في قلقه دون أن يستجيب له فورًا، أن يراقب فكرته بدلًا من تصديقها فورًا. عندما يخطر في باله السؤال المزعج: "هل فعلت هذا الشيء؟"، بإمكانه أن يقول لنفسه: "ربما نعم، ربما لا، ولن أتحقق الآن."
في بداية العلاج، نبدأ بتعليم المصاب كيف يفكّر كأن الفكرة لا تخصه، كيف يتركها تمرّ كما تمرّ الغيمة، دون أن يتتبعها أو يحاول طردها. نُعلمه أن كل مرة يقاوم فيها رغبته الملحة بالتحقق أو التنظيف أو السؤال، هو في الحقيقة يعيد تدريب دماغه على أن القلق لا يعني خطرًا حقيقيًا، وأن الأمان لا يُشترى بسلوك قهري.
لا نسأل المصاب أن يقفز من الجرف، بل نطلب منه أن يؤخر استجابته لبضع دقائق. ثم دقائق أكثر. وأن يتقبل شعور القلق كما هو، دون تصحيح الواقع أو طمأنة نفسه قسرًا. فالحرية الحقيقية تبدأ من هنا: من القدرة على البقاء في حضن القلق، دون الانصياع له.
العلاج ليس سهلًا، لكنه ممكن. وهو يبدأ من الاعتراف: أن الوسواس القهري مرض، وليس "صفة" يمكن التحكم بها بالإرادة وحدها. يحتاج إلى علاج معرفي سلوكي متخصص، وربما دوائي، لكن الأهم: إلى بيئة متفهمة لا تحاكم، بل تحتوي.
الوسواس القهري ليس ضعفًا في الإيمان، ولا نقصًا في الذكاء، بل اضطراب يتحدى صاحبه يوميًا. لكن من ينجح في مواجهته، هو بطل حقيقي... لأنه يواجه عقلًا لا يهدأ، ومع ذلك لا يتوقف عن المحاولة.
لأصحاب الوسواس القهري: أنتم لستم وحدكم، أنتم أقوياء في معركة لا تُرى.
وللمجتمع: كفوا عن إطلاق الأحكام، وابدأوا في تقديم الاحتواء.
ربما لا نفهم تمامًا ما يشعر به المصاب، لكن يمكننا أن نكون سببًا في أن يشعر بأنه مفهوم... ومقبول.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
11-06-2025 11:53 PM
سرايا |
2 - |
صديقتي الغاليع كل التوفيق لك .. كلماتك تتألق دوما
|
12-06-2025 04:15 AM
ايه نصيرات ![]() |