26-05-2025 08:31 AM
بقلم : نادية سعدالدين
سعى الساسة الصهاينة إلى إكساب مفهوم «الأمة اليهودية» بعداً دينياً، ينبثق من رؤية العهد القديم للإله باعتباره إله «إسرائيل» فقط وليس العالمين، فيكتسب المقدس هنا طابعاً قومياً والمطلق بُعداً نسبياً، وهي إحدى تجليات الفكر الصهيوني العنصري التوسعي.
خلعت الصهيونية القداسة التي أضفيت على «الشعب اليهودي» بالمعنى الديني لإسباغها على «الشعب اليهودي» بالمعني العرقي والإثني. ولأن الشعب قد حل فيه الإله، بحسبهم، فإن كل شيء يهودي قومي تحيط به هالة من القداسة، فتصبح حركة الكيبوتسات واليشوفات (وهي مُسميات للمستوطنات الصهيونية) و»انتصارات» جيش الاحتلال، كما ذهب الحاخام «ايوجين بوروفيتز» في وصفه لعدوان عام 1967، مسألة لاهوتية خالصة يتدخل فيها الإله.
وإذا كانت بنية الفكر تدور حول مطلق «الأمة» والكيان القومي، فان أي محتوى فكري آخر سيكتسب بعداً قومياً، عند الصهيونية طبعاً.
ورغم أن مفهوم «الأمة» يشكل أهم المُطلقات الصهيونية، ولكنه ليس المُطلق الوحيد، فالسمة الأساسية لبنية الفكر الصهيوني ليست تبنيها لفكرة أو لأخرى على أنها مُطلقاً، وإنما اتجاهها نحو الخلط أو المزج بين المقدس والنسبي، بالإضافة إلى خلعْ القداسة على كل الظواهر اليهودية القومية. ولعل الإيمان بارتباط القومي بالمقدس والمطلق (الدين) بالنسبي (المكان) هو الموضوعة الأساسية في الفكر الصهيوني وخاصية بنيته.
وهذا الأمر يشخص بجلاء في موقف الصهيونية من كل ما يدور حول مزاعم «الأمة اليهودية» الواحدة، أسوة بالتاريخ الذي يسير، بالنسبة إليها، في تطور خط مستقيم يتجه نحو أعلى هدف وغاية وليس في شكل دائري هندسي يتحرك حول نفسه دون غاية. وبحسب التصور اليهودي القديم، فان تاريخ اليهود مقدس يعبر عن الإرادة الربانية، كما أنه يتسم بالاستمرارية التي تتجسد في «إسرائيل»، «فإسرائيل» بالمعنى الديني هي نفسها «إسرائيل/ الشعب» بالمعنى العرقي، وهي نفسها «إسرائيل/ الدولة» بالمعنى السياسي، وكلها تجليات لنفس الجوهر الذي لا يتغير.
كما أن إسباغ مجتمع المستوطنين الصهاينة قبل عام 1948 بمصطلح «اليشوف» أو «المستوطن الجديد»، يعبر عن ذات المفهوم، لأن الاستيطان الاستعماري الجديد ما هو إلا استمرار للاستيطان بأهداف دينية، والذي كان يطلق عليه «اليشوف القديم».
ويحتكم الاستخدام الصهيوني لكلمة التاريخ هنا إلى العهد القديم، أو إلى التراث الديني لليهود المكتوب منه والشفهي، مما يشكل خلطاً بين المزاعم الدينية والتاريخية معاً، فتصبح الحدود التاريخية هي الحدود المقدسة المنصوص عليها في العهد القديم من «نهر مصر إلى الفرات» و»أرض كنعان»، والتي لا تمثل رؤية المتدينين والمتطرفين وحدهم بل تنبع من الوجدان اليهودي الجماعي بعد تلقينها المضامين الدينية الزائفة وربطها بالأطماع التوسعية. وينسحب ذلك على الحقوق التاريخية بوصفها حقوقاً مقدسة واردة أيضاً في العهد القديم بزعم أنهم «شعب مختار» له حقوق تستمد شرعيتها من العهد الإلهي الذي قطعه الله على نفسه لإبراهيم عليه السلام.
وتحت مزاعم «الأحقية» التاريخية «للأمة اليهودية» في فلسطين المحتلة وجوارها، حددت الصهيونية، منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد بزعامة مؤسسها «ثيودور هرتزل» في مدينة بازل بسويسرا عام 1887، أهداف المشروع الاستعماري الإحلالي ضمن حدود مطاطية قابلة للتوسع، مما يُفسر لاحقاً غياب حدود «الدولة» في «إعلان الاستقلال»، حتى تستوعب كل المستوطنين المهاجرين إليها من أصقاع العالم، وفق الساسة الصهاينة، بهدف توظيفها في خدمة مشروعهم التوسعي في فلسطين والمنطقة.
ومن هنا، تتنقل «الحدود» في مسماها ونطاقها الجغراقي بين «أرض كنعان» و»الحدود التاريخية» و»إسرائيل الكبرى» و»التوراتية»، استناداً إلى «جغرافيا التوراة» ذات الحدود الممتدة من «النيل إلى الفرات»، التي تحدث عنها رئيس الوزراء الصهيوني السابق «ديفيد بن غوريون» منذ عام 1937، وجدد تأكيدها في «الكنيست» عام 1956 رغم أنه ليس متدينًا، فيما تطالب بها الصهيونية الدينية والأرثوذكسية الحريدية اليوم.
لقد أحدثت المقاومة هذه الأزمة العميقة داخل الكيان الصهيوني، الذي يتعامل بدوره معها بكل وحشية وتطرف كتعبير عميق ومتقدم عن المأزق والشعور بالخطر. إذ كلما زاد صمود الفلسطينيين وثبات مقاومتهم، كلما تحللت الأوهام التي بنى عليها المستوطنون أحلامهم، وازداد مأزقهم.
الغد
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-05-2025 08:31 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |