30-01-2021 10:00 AM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
کما عرف عن "أرسطو"، هذا الفيلسوف الجامع والمفكّر اليوناني العظيم على مدى العصور، لقب " المعلّم الأوّل"، وهذا بالطبع يشير الى المقام الجليل للمعلم وأهمية التعليم، حقيق علينا حالياً أن نمنح كوفيد 19 او كورونا لقب " المعلّم الثاني"!.
واصطلاح " المعلم الثاني " هنا لا يعني الأقل أهميةاو البعدية أوفي المرتبة الثانية او الأخيرة ،بل لعله يكون المعلّم الأعظم والأكثر تاثيرا، " المعلم" هنا تعبير عن "معلّم الرائد ". لكن ما هي تعاليم هذا المعلّم ليستحق هذا اللقب؟
أولاً، لقد غيّر هذا الفيروس نظرتنا للعالم، وأن العالم مليء بالأسرار؛ أظهر هذا للعيان وللقاصي والداني: كيف يطوي صفحات حياة كثير من البشر، بما لديهم من تقدم وعلوم وتقنيات حضارية بطولها وعرضها . فهو يتمكن، عبر تدخله بتفاصيل بسيطة تكاد لا تساوي شيئاً، من جعل البشر كالعصف المأكول و الأوراق المهملة ورميهم جانباً وكأنهم ليسوا شيئا مذكورا.
على المرء أن يتعلم بأن العالم مفعمٌ بالأسرار وأنه يسير في دهاليز لها ألف باب ، يخرج من كل باب سراً يسير نحو غاية وساحل مقصود. لقد دلّ فيروس كورونا أيضاً بأن المادة والمعنى مندمجان معا في هذا العالم؛ الروح والجسم متعانقان سوياً؛ كما أن روحك القيمة متوقفة على جسم رخيص و بسيط كالكورونا، ما يعلّمنا جيداَ بأن حراسة الروح رهن بالمحافظة على نظافة وسلامة الجسد.
كذلك لقد أحدث فيروس كورونا تحولاً في "علم المعرفة" لدينا . أثبت أن هناك وقائع موجودة في العالم لا يمكن تجاهلها والمرور بها مرور الكرام ، بل يجب الوقوف عندها بتواضع و خشوع. أين هو باندورا ورفاقه أصحاب النظرية البنائية ليأتوا ويروا بأن ليس كل شيء صنيعة أذهاننا وعقولنا بل توجد وقائع عظمى على الأرض وفي حياتنا تغلق علينا الطريق وتجبرنا على التعرف اليها . نعم، هو في ذهننا المبدع من يجب عليه أن يصنع لنا من اللاشيء حتى أسمينا كورونا المعلم الأجدر او الافضل، ولكن هل هو إسم بلا مسمّى ؟
لقد قلب فيروس كورونا القيم والأخلاق رأساً على عقب! فقد أصبح فيروس كورونا من الورع حتى خرج علينا بداع عظيم للعدل للمساواة. لقد وضع مساواة البشر أمام أعيننا؛ تماماً "كالموت لا مفر منه إلا اليه"، برهن الكورونا بأن الجميع متساوون أمام قانونه ولا تمايز لأحد على أحد؛ الحاكم كأبسط شخص من الرعية. يصرع الملك والرئيس والوزير على الأرض نفسها التي عاش عليها المتسول البسيط ردحاً من الزمن.
والأسمى من طلب المساواة هذا، لقد حوّل الكورونا الـ"أنا" الى الـ"نحن " ودلّ بشكل قاطع بأن الناس ليسوا متساوين فقط، بل مندمجين معاً وأن مصير كل إنسان متداخل مع أخيه الإنسان الآخر في نسيج منسجم و كلٌّ معقّد متحد؛ وليس الأمر بأنّه إن استطاع أحد أو جمع ما "أن يقلع شوكه بيده"، سيتمكن من النجاة بنفسه ويأوي الى "ركن شديد" ويعيش حياته هانئاً في فقاعته المستقلة وجزيرته المعزولة: إمّا أن نحيا معاً أو نموت معاً! هذا درس الكورونا العظيم، وبهذا التعليم يضع في أيدينا المفتاح الذهبي للأخلاق: الإنتصار على محورية الأنا والأنانية، ليكون مظهراً للكلام (العلوي)الحكيم "فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها".
وأخيراً، يجب الإقرار بأن الكورونا هو مربٍّ حاذق؛ يقبض قبضتك بقبضته ويرميك أرضاً لتقوم وتنهض صانعاً من الضعف قوّة ! يصيبك بمصيبته عدّة أيّام لتقاومه وتواجهه، تكتشف بهذه المعركة قدراتك الكبرى المجهولة، سيرحل الكورونا ويعود ليدفن في التراب لتعيد إنتاج قوّتك وطاقتك المتجددة. كانت هذه "حيلته" لتحقق رشدك وتكاملك. وهو سيعود في يوم من الأيام ليهاجمك باسم آخر و شكل آخر؛ يعود ليكسر غرورك، ليحطّم هذه القدرة الوهمية و يستخرج قدرتك الحقيقية من وجودك الحقيقي.
نعم ، الكورونا هو المعلّم الثاني والأفضل فقد دل الإنسان على كثير من الأبواب الا باب النجاة يكون معا. !
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
30-01-2021 10:00 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |