24-03-2020 02:03 PM
بقلم : الدكتور علي الصلاحين
إننا إذا ضبطنا تصرفاتنا ومواقفنا وانفعالاتنا وجعلناها خاضعة لمؤشر الجمال، فإنه سيحولها من السلب إلى الإيجاب، من الدمار إلى البناء، من التشتيت إلى التجميع، فإذا الهجر باعتباره موقفا انفعاليا يدل على السخط والتذمر، ينقلب آلية للصلح ووسيلة لا غنى عنها لتقويم أي اعوجاج في سلوك الزوجة الناشز، وإذا التسريح باعتباره دعوة للفراق وتشتيتا للشمل، يصير أداة لاتقاء الأسوأ وتجنب الفادح من التصرفات والأقوال التي تنجم عادة عن الجمـع القسري لزوجـين غير منسجـمين، لا مودة تجمعهما، ولا رحمة تطيل حبل عشرتهما. وإذا الصبر الذي ينـزل على النفس ثقيلا، ثقالة السبب الذي أنشأه، يتحول إلى منهج لاستيعاب الصدمة بغية استدماجها كشرط ضروري لتجاوزها والانتصار على تبعاتها القاتلة، وإذا العفو الذي يُظن أنه صادر عن ذات ضعيفة لـم تقدر أن تنتصف لنفسها ينقلب أداة لتوبيخ الآخر وإيلامه لدرجةِ إكراهه معنويا على طلب العفو والمغفرة، هـاته المعـاني تتجـلى بوضـوح في مشـاهد مختـلفـة يُطلب فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفح (فاصفح الصفح الجميل ) (واهجرهم هجرا جميلا فاصبر صبرا جميلا)ويوجهه تارة أخرى عند (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جميلا)كما يؤمر عامة المؤمنين بسلوك السبيل نفسه عند تطليق النساء دون الدخول بهن (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جميلا)،وفي موقف يعـقوب، عليه السـلام، الذي ابتُلي بـلاء لا يخفف من وقعه الشديد إلا التحلي بالصبر الجميل، فقد فَقَدَ أعز أبنائه وأقربهم منـزلة إلى قلبه: نبي الله يوسف، عليه السلام. فما كان من الأب المكلوم إلا أن فوض أمره إلى الله وقال: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)، فصار قوله هذا يتردد في كل المواقف الشبيهة التي لا تنفع فيها الحيلة ولا البيان، كذلك أمنا عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت في حادثة الإفك: «إني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى كدتم أن تصدِّقوا به، فإن قلت لكم: إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدّقوني بذلك،والله يعلم أني بريئة،وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال يعقوب.عليه السلام فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
إن وصف الصبر ووسمه بسمة الجمال فيه أكثر من دلالة، إذ الصبر الذي يستحق أن يوصف بالجميل هو صبر ليس فيه جزع، ويكون ذلك بالسكون إلى القضاء سراً وعلناً،كما ،ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصبر الجميل فقال ،هو الذي لا شكوى معه ،لأن حالة التجمل بالصبر تحول بين الإنسان والشكوى، فإذا هو راض بالقدر في غير ما جزع ،قال الثوريُّ، رحمه الله: «من الصَّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بـمُصيبتكَ»( )، فما الفائدة من التشكي إذا لـم يأت بنتيجة،وَمَن جَرَّبَ الشَكوى فَلَم يَجن طائِلاً، ويحول التعبير القرآني مفهوم «الصبر» من اعتباره مجالا للمعاناة والقسوة، وإطارا لتدمير الذات وإفناء الإرادة، إلى مجال جمالي يسلي به الإنسان عن أحزانه، ويخفف به من وطأة المشاكل التي تجثم على صدره. بل إن الصبر الجميل يتحول إلى وسيلة تربوية مهمة في التأثير، تجعل المؤمن في تماس حقيقي مع إيمانه، واختبار فعلي لمدى صدقه في الخوف من الله والرجاء فيه، يتحقق ذلك ويتعمق في نفسه عندما يرى أن الصبر الجميل في بعده التربوي ويكون صبر المؤمن على البلاء جميلا،إذا عرف أن مُنَزِّلَ ذلك البـلاء هو الله تعـالى، ثم يعلم أن الله سبحـانه مالك الملك، ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملكه ويتحقق الجمال في الصبر إذا علم ،أن مُنَزِّلَ هذا البلاء، حكيم لا يجهـل، وعالـم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، وإذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصواباً، فعند ذلك يسكت ولا يعترض،ويتجـلى الصبر الجميل للمـؤمن عندما يتيقن أن هذا البلاء من الحق سبحانه،ويمنعه من الاشتغـال بالشـكوى عن البلاء، ولذلك قيل،الـمحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء، وتصير الحدود بين الصبر والصابر ضيقة،إن هذا المعنى اللطيف يكشف لنا عن ملمح جمالي آخر في ،الصبر الجميل ،وهو المتمثل في الطاقات المعنوية التي يُكسبها المتحلي به،لذلك قال يعقوب عليه السلام: والله المستعان على ما تصفون،مباشرة بعد قوله: فصبر جميل في إشارة إلى أن الصبر لايكون جميلا إلا في مرضاة الله، ولا يكون كذلك إلا إذا أعان الله المؤمن على هذا الفهم ووجهه إليه وأعطاه الطاقة الكافية على التحمل والصبر، وذلك لأن التركيبة النفسية والتربوية للإنسان إظهار الجزع وهي قوية، والإيمان يدعو إلى الصبر الجميل، فالمعونة منه جل وعلا.وهو وحده القادر على كشف الغمة وإزالة البلاء.
الدكتور علي الصلاحين.