حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,27 أبريل, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 923

على أنغام حليم

على أنغام حليم

على أنغام حليم

16-02-2020 09:27 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : ندى السوالمه

من سيارة أجرة كنت قد استقلتها ، نزلتُ مُستعجلة حاملة معي حقيبة بها أوراق و مسجل صوت ، و حول عنقي كاميرا معلقة لالتقاط ما يكفي من الصور التي ستضيف لموضوعي حقلا بصريا مهما .
مشيت على الرصيف بعدتي و عتادي متغنية باسم الشارع " شارع زمان " أبحث بلهفة عن منزل السيدة التي كُلفت بمهمة محاورتها ، أحاول جاهدة ألا أتأخر عن الموعد كي لا أخيب ظنها ، و أثناء التحرّي عن العنوان و لهفتي المعتادة وجدت نفسي أقف أمام بناية عتيقة ، مازالت تحتفظ بأنفاس الأجداد ، شكلها يشبه البنايات التي عهدنا تصاميمها في أفلام الزمن الجميل .
حدسي الذي اكتسبته من المهنة جعلني أقترب أكثر ، فلاحظت وجود سيارة مركونة آخر مدخل البناية محمية بقطعة قماش كبيرة ، استنتجت من شكل عجلها أنها ذات طراز قديم ، و الفضول شجعني للتوجه نحوها و انتزاع جزء من القماش عنها لأجدها من الأنواع التي تُرشح بامتياز لتتصدر مكانة مرموقة في متحف السيارات النادرة ، إعجابي بالبناية جعلني أجزم و أقرر أنها البناية التي تقطن بها السيدة ، دفعت باب المدخل الخشبي لأبحث عن أي تفاصيل تدلني على بيتها ، تنقلت بين الطوابق معتمدة على فطنتي ، و قبل أن أتهم حدسي بالخيبة ، وجدت ألحان حليم تزين عتبة أحد المنازل ، بكل ثقة مددتُ يدي و طرقت بتناغم يتناسب و ألحان العندليب .
شرّعت بابها ببطئ ليطل شعاعها المبهج ؛ هي سيدة بلغت السبعين من العمر ، تغزو قلبك بابتسامتها الرزينة ، ترتدي فستان أزرق نيلي ، شعرها مزين بخيوط بيضاء ملائكية ، مصفف للخلف بنهاية دائرية تشبه كبة صوف ناعمة ، يُهيأ لك من النظرة الأولى أنها إحدى ممثلات عهد الفن الراقي اللاتي كنا نتابع صورهن على صفحات المجلات .

رحبت بي بحفاوة و كأنها تعهدني ، أدخلتني لغرفة الجلوس ثم توجهَت نحو خزانة خشبية و سحبت منها فناجين شاي أنيقة شفافة مطرزة بخيوط وردية لتعد لي ما أحتسيه ، أما أنا فوقفت مبهورة من جمال التفاصيل حولي فجهزت الكاميرا و قررت توثيق كل العناصر المرئية الجميلة ، وجدتُني أصور الهاتف القديم الذي سمعت أنه كان يُهدئ الحنين و يُطمئن المغتربين و يروي قلوب العاشقين ، حتى ذلك التلفاز القديم جدا ؛ فبرغم ضوئه الخافت و شكله الغير معاصر و ألوانه التي لا تحاكي الواقع إلا أنه شدّ عدستي ، و أيضا الراديو الكبير الذي لا أعلم كيف مازال على قيد الحياة التقطت له العديد من الصور و من مختلف الزاوايا ، تابعت تصوير كل أصيل و عريق إلى أن سمعت خطواتها الأنيقة تقترب فعدت لأجلس على مقاعد الصالون الخشبي الممزوج بقطع أرابيسك رصينة ؛ و لكم أن تتخيلوا الفخامة و السُّمو حين يجتمعان في قطعة فنية واحدة ، تقدَمت نحوي و انحنت بكل ودّ لتقدم لي فنجان الشاي الذي رجوت الله أن لا أتسبب في كسره من شدة انبهاري بسحره ؛ مذاق الشاي الشهي حفزني للسؤال عن مكوناته ؛ ابتسمت لعفويتي و قالت أنه فقط "صنع بحب" .

بدأنا بتبادل الأحاديث المتنوعة لأشجعها على حوار عفوي لطيف ، فأبهرتني بثقافتها العالية ، حدثتني عن الفترة التي كانت تعمل فيها مربية أجيال و كم كان مهما أن تثقف نفسها في شتى المجالات ، فالمعلم المعطاء يقدّم لتلاميذه بسخاء هائل لإعلاء مستوى الأجيال و الوطن ، تجاوبَت بكل شغف مع استفساراتي المتعلقة بوضع المرأة في الزمن الماضي ، كانت تنتظر حتى أدوّن كلماتها ثم تُكمل سردها ، إلى أن قررت وضع القلم جانبا و استبداله بمسجل الصوت لحرصي الشديد على الإستمتاع بالتفاصيل الشيقة و النظر إلى تعابير وجهها المليئ بزخرفات و إبداع ريشة الزمن ، سرعان ما توطدت علاقتي بها فوجدتني أسألها عن رفيق روحها ، أخبرتني أن كل هذا الدفئ في البيت و التفاصيل التي لمعت عيناي من جمالها جميعها موجودة بسبب اهتمامِه بتفاصيلها كسيدة ، أما عن حنينها إليه ؛ فقالت أنها كلما طرق الشوق نوافذ الوله تذهب لتلقي نظرة على سيارته العتيقة ، تعطرها بعطرٍ كان يحبه ، و تطلق سراح ذكرياتها الجميلة معه إلى أن تغفو على ألحان العندليب الذي كان من أشد المعجبين بصوته ، راجية من ذلك أن تراه في حُلم جميل تأمله .

طلبت منها أن ننتقل للشرفة التي يفوح منها عبق الياسمين ، فوجدتها تطلب مني أن أسقي ياسمينها حتى تعود ، نفذتُ المهمة بكل حب و جلست أنتظرها على أريكة من قش ، أحضَرت لي قطع حلوى و ألبوم صور يوثق كل لحظاتها الجميلة منذ كانت طفلة ، مرت الساعات معها و كأنها لحظات ، بدأ الغروب يشق طريقه إلى السماء ، فلملمت عدتي و شكرتها على سعة صدرها ، أثنت على زيارتي لها و طلبت أن أعود لأطمئن عليها ، أسعدتني كلماتها و غمرتني بلطفها .

خرجت من باب البناية و اتجهت نحو السيارة لألقي نظرة أخيرة على تحفة الذكريات هذه ، و كلي امتنان لمهنة جعلتني أقضي يوماً بهِيّا مع سيدة تعيش على أطلال و أصالة الماضي .


تُرى أين ستكون الوجهة التالية !


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 923
برأيك.. هل تكشف استقالة رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وصول الردع الإسرائيلي لحافة الانهيار ؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم