حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,7 نوفمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 1453

على أنغام حليم

على أنغام حليم

على أنغام حليم

16-02-2020 09:27 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : ندى السوالمه

من سيارة أجرة كنت قد استقلتها ، نزلتُ مُستعجلة حاملة معي حقيبة بها أوراق و مسجل صوت ، و حول عنقي كاميرا معلقة لالتقاط ما يكفي من الصور التي ستضيف لموضوعي حقلا بصريا مهما .
مشيت على الرصيف بعدتي و عتادي متغنية باسم الشارع " شارع زمان " أبحث بلهفة عن منزل السيدة التي كُلفت بمهمة محاورتها ، أحاول جاهدة ألا أتأخر عن الموعد كي لا أخيب ظنها ، و أثناء التحرّي عن العنوان و لهفتي المعتادة وجدت نفسي أقف أمام بناية عتيقة ، مازالت تحتفظ بأنفاس الأجداد ، شكلها يشبه البنايات التي عهدنا تصاميمها في أفلام الزمن الجميل .
حدسي الذي اكتسبته من المهنة جعلني أقترب أكثر ، فلاحظت وجود سيارة مركونة آخر مدخل البناية محمية بقطعة قماش كبيرة ، استنتجت من شكل عجلها أنها ذات طراز قديم ، و الفضول شجعني للتوجه نحوها و انتزاع جزء من القماش عنها لأجدها من الأنواع التي تُرشح بامتياز لتتصدر مكانة مرموقة في متحف السيارات النادرة ، إعجابي بالبناية جعلني أجزم و أقرر أنها البناية التي تقطن بها السيدة ، دفعت باب المدخل الخشبي لأبحث عن أي تفاصيل تدلني على بيتها ، تنقلت بين الطوابق معتمدة على فطنتي ، و قبل أن أتهم حدسي بالخيبة ، وجدت ألحان حليم تزين عتبة أحد المنازل ، بكل ثقة مددتُ يدي و طرقت بتناغم يتناسب و ألحان العندليب .
شرّعت بابها ببطئ ليطل شعاعها المبهج ؛ هي سيدة بلغت السبعين من العمر ، تغزو قلبك بابتسامتها الرزينة ، ترتدي فستان أزرق نيلي ، شعرها مزين بخيوط بيضاء ملائكية ، مصفف للخلف بنهاية دائرية تشبه كبة صوف ناعمة ، يُهيأ لك من النظرة الأولى أنها إحدى ممثلات عهد الفن الراقي اللاتي كنا نتابع صورهن على صفحات المجلات .

رحبت بي بحفاوة و كأنها تعهدني ، أدخلتني لغرفة الجلوس ثم توجهَت نحو خزانة خشبية و سحبت منها فناجين شاي أنيقة شفافة مطرزة بخيوط وردية لتعد لي ما أحتسيه ، أما أنا فوقفت مبهورة من جمال التفاصيل حولي فجهزت الكاميرا و قررت توثيق كل العناصر المرئية الجميلة ، وجدتُني أصور الهاتف القديم الذي سمعت أنه كان يُهدئ الحنين و يُطمئن المغتربين و يروي قلوب العاشقين ، حتى ذلك التلفاز القديم جدا ؛ فبرغم ضوئه الخافت و شكله الغير معاصر و ألوانه التي لا تحاكي الواقع إلا أنه شدّ عدستي ، و أيضا الراديو الكبير الذي لا أعلم كيف مازال على قيد الحياة التقطت له العديد من الصور و من مختلف الزاوايا ، تابعت تصوير كل أصيل و عريق إلى أن سمعت خطواتها الأنيقة تقترب فعدت لأجلس على مقاعد الصالون الخشبي الممزوج بقطع أرابيسك رصينة ؛ و لكم أن تتخيلوا الفخامة و السُّمو حين يجتمعان في قطعة فنية واحدة ، تقدَمت نحوي و انحنت بكل ودّ لتقدم لي فنجان الشاي الذي رجوت الله أن لا أتسبب في كسره من شدة انبهاري بسحره ؛ مذاق الشاي الشهي حفزني للسؤال عن مكوناته ؛ ابتسمت لعفويتي و قالت أنه فقط "صنع بحب" .

بدأنا بتبادل الأحاديث المتنوعة لأشجعها على حوار عفوي لطيف ، فأبهرتني بثقافتها العالية ، حدثتني عن الفترة التي كانت تعمل فيها مربية أجيال و كم كان مهما أن تثقف نفسها في شتى المجالات ، فالمعلم المعطاء يقدّم لتلاميذه بسخاء هائل لإعلاء مستوى الأجيال و الوطن ، تجاوبَت بكل شغف مع استفساراتي المتعلقة بوضع المرأة في الزمن الماضي ، كانت تنتظر حتى أدوّن كلماتها ثم تُكمل سردها ، إلى أن قررت وضع القلم جانبا و استبداله بمسجل الصوت لحرصي الشديد على الإستمتاع بالتفاصيل الشيقة و النظر إلى تعابير وجهها المليئ بزخرفات و إبداع ريشة الزمن ، سرعان ما توطدت علاقتي بها فوجدتني أسألها عن رفيق روحها ، أخبرتني أن كل هذا الدفئ في البيت و التفاصيل التي لمعت عيناي من جمالها جميعها موجودة بسبب اهتمامِه بتفاصيلها كسيدة ، أما عن حنينها إليه ؛ فقالت أنها كلما طرق الشوق نوافذ الوله تذهب لتلقي نظرة على سيارته العتيقة ، تعطرها بعطرٍ كان يحبه ، و تطلق سراح ذكرياتها الجميلة معه إلى أن تغفو على ألحان العندليب الذي كان من أشد المعجبين بصوته ، راجية من ذلك أن تراه في حُلم جميل تأمله .

طلبت منها أن ننتقل للشرفة التي يفوح منها عبق الياسمين ، فوجدتها تطلب مني أن أسقي ياسمينها حتى تعود ، نفذتُ المهمة بكل حب و جلست أنتظرها على أريكة من قش ، أحضَرت لي قطع حلوى و ألبوم صور يوثق كل لحظاتها الجميلة منذ كانت طفلة ، مرت الساعات معها و كأنها لحظات ، بدأ الغروب يشق طريقه إلى السماء ، فلملمت عدتي و شكرتها على سعة صدرها ، أثنت على زيارتي لها و طلبت أن أعود لأطمئن عليها ، أسعدتني كلماتها و غمرتني بلطفها .

خرجت من باب البناية و اتجهت نحو السيارة لألقي نظرة أخيرة على تحفة الذكريات هذه ، و كلي امتنان لمهنة جعلتني أقضي يوماً بهِيّا مع سيدة تعيش على أطلال و أصالة الماضي .


تُرى أين ستكون الوجهة التالية !








طباعة
  • المشاهدات: 1453
برأيك، هل تنتقل المعارك والمواجهات إلى الضفة الغربية بعد توقف الحرب بين "إسرائيل" وحماس في غزة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم