حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
السبت ,27 أبريل, 2024 م
طباعة
  • المشاهدات: 6410

غربة وانتظار

غربة وانتظار

غربة وانتظار

18-02-2019 09:28 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د. عائشة الخواجا الرازم

عشناها غربة عن أنفسنا وعن أقرب الناس إلينا ، عشناها مساحات واسعة نذرف الدموع شوقاً ليوم أبيض نرى فيه وضوح النهار ، وحينما نعد العدة ونحمل بقجة العودة ، نفاجأ بالغربة الجديدة ، تأتينا أخبار الفصول وتحولاتها فور وصولنا إلى أول خطوة في قطار العودة ، تأتينا إشارات من كل القطارات متسارعة بالوميض ، تجعلنا نشعر أننا تأخرنا عن اللحاق بالقطار وقد هرع الآخرون قبلنا ...
نتراجع إلى الوراء ونشعر أننا في المحطة غرباء لا تحتملهم صافرات القطار البطيء ولا ترن لهم صافرات القطار السريع .
يطول الوقوف والانتظار، وتفتح النوافذ وتشرع في تغيير هواء المحطة ، فيصفق الريح وجوهنا وتتطاير حقائب السفر الخفيفة التي جئنا نحملها فارعين دارعين أمام الناس ، لنقول لهم ونشعرهم بأننا زاهدين في الأحمال ، وكأننا نقول لهم لا نحمل سوى الهوية ، حقائبنا فارغة وخفيفة الوزن فلا نثقل على فرقونات القطار ... إلا من هوية !
نسمع صفير القطار مخيفا خائفا مت وزن ما نحمل ...فيتركنا ويحمل كل الطوابير المحملة بالأثقال والأوزان ...
ويطل الهجير علينا من كل الجهات ، فيتركنا القطار ويمضي بعيداً عنا ... يركب الناس ونحن نهفو للركوب . ثم نقترب من السكة في الطريق ونلوح للقطار الجديد ، حتى لو أمطرت وأعادتنا للشعور بأن في المسار سيحضر السريع الجديد .
... يطول الترقب ....فنحن ننطوي على ترقب لا ينتهي .
طالت بنا الحياة المثقلة بالترقب من وراء حجاب جدار مهدوم وحبل غسيل دائم الحركة تحت الرياح ، فكل ملعب نقفز في ساحته يغربنا أكثر ، حتى بتنا غرباء في حوش الدار الذي وسعناه ليتسع لعائلتنا المتكاثرة بحجة مباهاة الأمم يوم القيامة .
غرباء بين الأهل وفي السهل وفي الوديان وفي الموئل ، غرباء حتى النخاع ... وكل غربة تنادينا بأنها هي المحطة الأخيرة للتمدد على بساط الريح الموجه مع كلمة (غربه ) وبعكس الشرق ظلت عبارة رايحين غربه تنأى بنا إلى أبعد من الشمال والجنوب والشرق والغرب ! فتحولت كلمة ( غرب النهر إلى كلمة غربه ) فلا نهايات في المحطات ولا قطارات تتوقف لنتعلق في حجراتها أو حتى على أطراف فرقوناتها ، كل القطارات تمضي بعيداً عن وقفتنا ، وتقل غيرنا وتسحب أنفاسها وتطلق الصفير .
كل المواقف والمحطات التي انتظرنا القطار فيها محفور عليها كلمة غريب ... وفي ذيلها سهم يؤشر علينا ...وكل من يقرأ هذه الكلمة ينظر إلينا ويجحر فينا من ساسنا لراسنا بالذات ، وكأننا موسومون بمشرط الحروف الناتئة ومرصود دمنا لاستغراب الخلق بدون هوادة ...
كل المحطات تعرفنا وتعجب بفجرنا الذي ترانا فيه مصبحين نشطاء ، تلملمنا صحوة ابتسامة تنم عن صبر يعقوب وأيوب وننهل من إشراقة الشمس رفة الأمل ، فيبادلنا المسافرون المسرعون بضحكة واسعة غير مجلجلة في المحطات فيها خجل وحسرة ، كأنهم يدركون أن القطارات والمسارات لن تتوقف بجانبنا ... نشعر بأننا أخوتهم وهم أخوتنا ...ونغفل أن ضحكاتهم هي تعاطف مبرق مؤقت يرثي لحال انتظارنا ..
المحطات لنا ملكية مؤقتة تتجهم في وجه صورة الهوية غير قابلة للاستخدام ، البطاقات التي نحملها للركوب إلى هناك مدموغة مع وقف التنفيذ ...
تبزغ من بعيد كأنها منافذ الإنطلاق ، لكنها تنفذ فوراً من حقائب السفر وتفرغ ، ومع أن حقائبنا خفيفة لاشية فيها ، تجف فوراً تحت انهمار دموعنا حالما نسمع كلمة ترضية ، أو لمسة على الخدود ، أو تمسيدة على شعر النسيم في حلمنا ، فيكتفي المستعجل المملوء بالوعود برؤيته لرضانا ، ويمضي مبرقاً لجموع المحطات أننا نبسم وفي الصدور تصديق لتوقيت القطار القادم ، ونحن ندرك أن محطة غربه هي الصفير الأول والأخير الأعلى صوتاً في صدورنا ، والحروف الناتئة باتجاه تجاهلنا في الأماكن تبرز وتضيئ وتنطفيء ثم تعود لتضيء وتعود لتنطفيء ، وتظل كلمة غربة تعود وتختفي فوق غيوم عودة القطار آخر الليل ويحل الظلام ، ويطول تعطيل تشغيل القطار الأخير ... والناس قد وصلت لأهلها ، ونحن نتطلع حولنا في الساحة الفارغة وعلى سكك السفر ، فلا يعود للقطارات ضجيج ، وفجأة لا يكون في المحطات سوانا !
على قارعة الغربة ... حيث انتهى نقل الناس .. كلهم وصلوا لمبتغاهم ، وليس في المحطات مجال للغرباء ! لكننا ما زلنا ننتظر واقفين بحقائب محشوة بفراغ الإنتظار ، وبالتطلع نحو الجهات التي سنسمع منها صفير آخر قطار !!!


لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "فيسبوك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "تيك توك" : إضغط هنا

لمتابعة وكالة سرايا الإخبارية على "يوتيوب" : إضغط هنا






طباعة
  • المشاهدات: 6410
برأيك.. هل تكشف استقالة رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وصول الردع الإسرائيلي لحافة الانهيار ؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم