15-11-2018 12:08 PM
بقلم : العميد المتقاعد هاشم المجالي
عنوان مقالتي هذه فقط للربط بين المشاعر التي خلقها الله واوجدها في خلقه رغم نسبة تفاوتها بين كل مخلوقاته الحية من انسان وحيوان ونبات ، ولكن هناك مشاعر وأحاسيس أيضا اوجدها الله بين الكائنات الحية والجماد المتمثل بالمكان الذي ننتمي إليه قد ترقى وتصل إلى مرحلة المشاعر بين الإبن وأمه وأبيه ، وما سردي لهذه القصة التي حصلت معي إلا للتأكيد على هذه المشاعر المحسوسة وليست الملموسة.
عندما كنت مديرا للشرطة السياحية حضرت إلى مكتبي إمرأة بلغ عمرها نهاية العقد الخمسيني ، وكانت ترتدي العباية السوداء وترتدي حجاب نص الكم الشائع الآن ، وتضع بعضا من مستحضرات التجميل الفاهية والمخربشة .
حضرت هذه المرأة لتشتكي على مطعما سياحيا مدعية أنها رغبت بالدخول لهذا المطعم إلا أن إدارة المطعم رفضت السماح لها بالدخول وحجز طاولة كزبونة.
تم تدوين أقوالها وتسجيل شكواها وبناء على ذلك تم استدعاء صاحب المطعم السياحي إلى مكتبي وهو مستثمر من جنسية عربية وليس اردنيا، عندما حضر وسئلته عن الشكوى المقدمة بحق إدارة مطعمه من قبل هذه السيدة ، تحفظ صاحب المطعم بإجابته وتعذر بأن المطعم كان محجوزا ولا يوجد طاولات فارغة للزبائن، عندها أخبرته أنني أمام شكوى و أن لم يحدثني بحقيقة الوضع فإنني مضطرا إلى توديعه للمحكمة المختصة ومخاطبة وزارة السياحة لإتخاذ إجراء إداري بحق مطعمه ، عندها قال لي أن هذه السيدة المشتكية دائما تأتي إلى المطعم وتحضر معها بنات صيادات لزبائن المطعم تعمل على عقد صفقات مع بعض زبائن المطعم ومرتاديه، وهذا الوضع يخسره زبائن من ناحية مدة مكوثهم وتكرار طلباتهم بالمطعم كما أنه يخسره بعض مرتاديه من فئة العائلات ويشوه صورة المطعم .
أمام رد صاحب المطعم قمت بالبحث والتحري عن هذه السيدة المشتكية حيث وجدت أن ما يقوله صاحب المطعم صحيحا وأنها أيضا ترغب بابتزازه ماليا ومعنويا من خلال شكواها لدينا لكي تتنازل عن شكواها ،عندها قمت برفض إستقبال شكواها وقمت أيضا بتجهيز كتاب أودعها فيه إلى الحاكم الإداري لإتخاذ كفالات عدلية بحقها تضمن عدم لجوئها لمثل هذه الأساليب الاحتيالية .
أثناء تجهيز الكتاب بدأت هذه السيدة بالرجاوي والبكاء بعد اعترافها بما واجهتها به من معلومات عنها وأنها تريد ابتزازه لصاحب المطعم ماليا ومعنويا، فطلبت قسم القضائية أن يتحفظوا عليها لحين تجهيز كتاب توديعا لعطوفة محافظ العاصمة ،وفي هذه اللحظات اخبرني مدير مكتبي أن هناك شخص يرغب برؤيتي وهو شاب بالعقد الثالث من العمر فطلبت إدخاله إلى مكتبي، وبعد جلوسه أخبرني أنه صاحب شركة اسكانات ومجموعة شقق للتأجير وأن اسمه معروف بقطاع الإسكان ، فسئلته عن سبب زيارته لي فأخبرني أنه قادم من أجل هذه السيدة ليتوسط لها بإلغاء إجراء توديعها إداريا، فاستهجنت ذلك الطلب ورفضت وساطته وسئلته عن علاقتة بهذه السيدة السيئة السمعة وسبب إهتمامه بها، فكان الجواب الصاعق الذي صدمني ، حيث قال لي بعد محاولته ابتلاع ريقه الناشف مع تصبب جبينه لعرق الذل والمرارة ، قال لي هذه السيدة أمي أمي ، عندها كانت الدهشة تعتريني وتصيبني إصابة شر البلية ما يضحك حيث قمت بالضحك تارة والتحسب إلى الله تارة أخرى ، فقلت له كيف ذلك وهي تنتهج مسلكا سيء السمعة ، فاجابني نعم هي ما تقول ولكنها .. أمي... فقلت له أن لها اسبقيات وتمتهن مهنة لا أخلاقية ولا تهتم ببيتها وأولادها من رعاية وسكينة ولا تقوم برعاية شؤون الأسرة المفروض عليها القيام بها ، فقال لي نعم .. ولكنها أمي.. فقلت له يا رجل لها سمعة سيئة فأجابني بلا حول ولا قوة إلا بالله ولكنها . ..أمي أمي. ..قالها وهو مطأطأ الرأس والدموع الباكية تسيل من عينيه كجريان ماء وادي زرقاء ماعين الذي جرف معه ضحايا لاذنب لهم سوى أن هذا هو قدرهم.
عندها استعذت بالله من شياطين الإنس والجن ، وقلت له لماذا هي تفعل ذلك وأنت مقتدرا ماليا وعندك شركة إسكانات وشقق مفروشة للإيجار، فقال لي قلت لها كل ما تقول لي ولكن قدري أن تكون هذه أمي، وتابع قوله ،، كنت في كل مرة تعرضني لمثل هذه المواقف أقول لها وانا أقبل يديها واخبرها بأنني وكل ما أملك تحت تصرفها فعلا وقولا، ولكنها كانت توعدني ولا تفي بوعدها ،وتابع حديثه قائلا أنها عندما بدأت تعمل بهكذا أعمال كان هو خارج الوطن مغتربا عاملا حتى إستطاع تجميع ثروة جعلت منه صاحب شركة إسكان، وكانت هي واخوته معسورين الحال يحتاجون مالا للصرف على أنفسهم بأي طريقة أو وسيلة كانت ، وبعد عودتي للوطن طلبت منها أن تكف و تبتعد عن هذه الأعمال السيئة والمشبوهة ، وكانت توعدني بالابتعاد ولكنها اعتادت وادمنت على هذه الأجواء والأفعال ، رغم أنني خففت منها إلا أنني لم أستطيع إبعادها نهائيا و لغاية هذه اللحظة ، لكنني سوف أستمر ولن أيأس نهائيا من إصلاحها فهي أمي .
عندها طلبت أن يدخلوها إلى مكتبي بوجود ابنها الذي صار يترجاني بعدم مشاهدته لها في حالتها هذه ، ولكنني اصريت على بقاءه لاعطيها درسا قاسيا أمام ابنها لعل وعسى أن تكون هذه المرة هي الأخيرة لها في هذا المسلك .
وعند دخولها لمكتبي ومشاهدتها لإبنها الجالس عندي صعقت وتفاجئت وفقدت وعيها وسقطت من طولها على الأرض حيث قمنا بانعاشها برش الماء على وجهها وكان ابنها يقوم بصفعها صفعا خفيفا بيدية على وجهها لكي تصحى وتفيق، وقامت هي بالبكاء والأنين المخنوق في بئر عميق وهو يقوم يمسح دموعها ولا يوجد من يمسح دموعه هو ، عندها أدركت معنى إجابته لي عندما يقول لي قدري أنها أمي .
ومن هنا وبعد هذه القصة الواقعية والمحزنة ، أصل لنتيجة أنه إذا كان قدرنا نحن الأردنيون أن الأردن هو وطننا برغم اوجاعنا مما يجري فيه ومعه فلنحاول أن نتعامل معه كما تعامل هذا الإبن البار مع والدته ، ولو أن هناك حقوقا لنا كشعب أردني ومقدرات في وطننا قد
انتهكت وسلبت وسرقت ، هو وطننا حتى لو أن فيه مفاهيم للعدل والمساواة والانتماء والولاء قد تغيرت وقلبت رأسا على عقب ، وهو وطننا لا أملك إلا الدعاء له ومسح دموعه والسعي لإصلاحه لأن مشاعرنا تجاه تجاه أمهاتنا لا تختلف عن مشاعرنا تجاه أوطاننا فوطني هو أمي وهذا قدري.
حمى الله وطني وشعبة و قيادته من كل سوء.