22-12-2025 08:41 AM
بقلم : نادية سعدالدين
رغم ادعاءات الصهيونية الزائفة؛ منحت معظم دول أوروبا اليهود حقوقهم المدنية والسياسية وقدراً كبيراً من الاندماج داخلها، فبرزت حركات مثل «الهاسكلاه» (أي التنوير) تنادي بالدمج، و»اليهودية الإصلاحية» بمقولات الانعتاق من أسر الطقوس الدينية لصالح الاحتكام للعقل، وصولاً إلى تخلي تيار عقلاني تاريخي عن أسطورة «الشعب المختار» التي عمقت عزلة اليهود، مقابل من أعطاها دلالة أخلاقية مزعومة بوصفهم شعباً مختاراً صاحب رسالة أخلاقية ليست منفردة، لنشرها في العالم، مما يناقض الفكرة اليهودية التقليدية التي رأت في الاختيار مسألة صوفية يحفها الغموض وأمراً ربانياً لا يمكن للبشر إدراك كنهه وفقاً لتأويلات التوراة.
بينما تمكنت «اليهودية الخلاصية» من طرح رؤية معدلة لفكرة «الماشيح» لتصبح أكثر إنسانية وأقل أسطورية وقومية، بدلاً من الدوران داخل حدود التراث اليهودي التقليدي، وذلك عند المناداة بالعصر الماشيحاني الذي سيأتي بفعل التقدم العلمي والحضاري، فتحولت الأسطورة المطلقة إلى رؤية شاملة مُمكنة غير قاصرة على اليهود وحدهم.
لم ترُق تلك التوجهات «لليهودية الأرثوذكسية» (المذهب المسيطر على الحياة بالكيان المُحتل) و»اليهودية المحافظة» والحركة الصهيونية، فوقفوا بالمرصاد ضد التيار الإصلاحي والتنويري، في تحالف ثلاثي وثيق ما يزال قائماً، لترسيخ مزاعم الأحقية الدينية التاريخية في فلسطين المحتلة، عبر تعميق العزلة الدينية كطريق وحيد، وتعظيم مكانة التوراة باعتبارها كلام الله تعالى كتبها حرفياً، قيمها خالدة أزلية تنطبق على كل العصور ولولاها لما تحقق وجود «شعب يسرائيل» الذي عليه اتباع تعاليمها بدون تغيير أو تبديل، فالدين اليهودي لم يكن مجرد عقيدة يؤمن بها اليهودي الفرد بل نظام ديني يغطي كل جوانب الحياة اليهودية.
وتوافقت اليهودية «المحافظة» و»الأرثوذكسية» في إضفاء هالة من القداسة على حياة اليهود وتاريخهم، يرجعها «الأرثوذكس» إلى أصول ربانية بينما يردها «المحافظون» إلى أصول قومية، مع تأكيد متانة العلاقة التي تربط الله تعالى بالشعب والأرض والتوراة. وهذا هو جوهر الصهيونية، فاليهود بالنسبة إليهم غير قادرين على التكيف مع الواقع التاريخي الجديد وعليهم البقاء داخل مقدساتهم القومية، لتحقيق «مهمتهم التاريخية التي تحتاج إلى قطعة أرض تكون وطناً لهم»، وفق الصهيوني «موسى هس»، بما يحمل ذلك الفكر المتطرف هروباً من التاريخ المحسوس إلى عالم تسيطر عليه الأساطير والمطلقات.
وكان من السهل أن تعتنق العقلية اليهودية، المجبولة بالعنصرية والعدوانية، الأساطير القديمة بكل لا تاريخيتها، المتصلة بعودة «الماشيح المخلص» و»الشعب المختار» الذي عليه العيش منعزلاً عن الناس لتحقيق رسالته إلى حين العودة «لأرض الميعاد»، وإسباغ سمة المطلق على الدين والشعب اليهودي، والإيمان بالقانون اليهودي الدائم التطور شريطة اتساقه مع منطق اليهودية نفسها.
وبدوره، سعى التيار الصهيوني لتعميق نزعة الانفصال اليهودي، وليس الاندماج خشية الفناء، سبيلاً لحل ما يُسمى «المسألة اليهودية» بالهجرة إلى «أرض الميعاد» في آسيا بعيداً عن أوروبا. ويمكن فهم سلوك مؤسس الحركة الصهيونية «ثيودور هرتزل» من هذا المنطلق برغم تحقيقه الاندماج على مستوى شخصي، فهو كيهودي نمساوي وكصحفي، كان مُهدداً بفقدان موقعه الطبقي الحضاري بسبب وفود آلاف اليهود من شرق أوروبا، ولكن إيمان يهود الغرب بالصهيونية لم يكن إيماناً كاملاً بل كان عملياً جزئياً، فالحل الصهيوني اللاعقلاني ملائم ليهود الشرق، فحسب، أما بالنسبة إليهم فالحل المستنير العقلاني كان الأفضل، وفق منظورهم.
وجد الحل الصهيوني جذوره في طبقة يهودية متشربة بالثقافة اليهودية التي تدين بالولاء لتراثها الديني الغيبي، ولكنها مُشبعة أيضاً بالأفكار السياسية والاجتماعية الغربية من قومية إلى اشتراكية، مما أفرز قيادات صهيونية قادرة على التحرك في إطار معتقداتها الصهيونية الغيبية وإجادة استخدام المصطلحات والوسائل العلمانية.
وتجسد هذا التوالف في بروز عقيدة «الماشيح» الخاصة بالصهيونية، التي تقوم على دعوة اليهود بالكف عن الانتظار السلبي للماشيح، والحصول على الخلاص بأنفسهم، بالعودة إلى «أرض الميعاد» تحت مظلة المنظمة الصهيونية العالمية أو عن طريق العنف المباشر ضد اليهود أنفسهم، المُمانعين لمغادرة المجتمعات المقيمين فيها، لدفعهم إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين المحتلة.
وقد استفادت الصهيونية من محاولات التنوير لتحديث فكرة العودة فوظفتها لصالحها عبر طرحها بشكل مغاير للشكل التقليدي مع الاحتفاظ ببعض عناصر الفكرة التقليدية، فالعودة هنا إلى التراث اليهودي والمعتقدات الدينية اليهودية عودة غير كاملة لأنهما تعرّضا للتحديث على يد دعاة التنوير، فكان على الصهيونية إضفاء غلالة علمانية عقلانية على المعتقدات الغيبية الأسطورية.
وبتحريف عقيدة «الماشيح» ذات الأصول العنصرية المتطرفة؛ والدعم الغربي، نفذت الصهيونية «جزءاً» من مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين المحتلة، مستندة إلى «أساطير» دينية تاريخية لا تزال ديدن وجودها، فبدونها تصبح حركة جوفاء تفتقد لمقومات الحياة والاستمرارية.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
22-12-2025 08:41 AM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||