21-12-2025 02:47 PM
بقلم : أ. صايل خليفات
في زمنٍ صارتْ فيه الكلمةُ رقمًا، والصوتُ حسابًا عابرًا، لم تَعُدِ الفتنُ تولدُ من مجالسِ سُفَهاءِ الرجالِ، ولمّاتِ «الحريمِ»، بل أصبحتْ تولدُ وتُدارُ من شيفراتٍ في غرفٍ معتمةٍ تُحرِّكُها أصابعُ الصهيونيَّةِ العالميَّةِ بأذرعِها المختلفةِ من الموسادِ والماسونيَّةِ والجماعاتِ المتطرِّفةِ في كلِّ مكانٍ.
لقد تحوَّلتْ منصَّاتُ التواصلِ إلى ساحاتِ حربٍ ناعمةٍ، تُطلَقُ فيها الرصاصةُ نصًّا، وتُسفَكُ فيها السُّمعةُ تعليقًا، وتُحاصَرُ فيها الأوطانُ بسيلٍ من الإشاعاتِ التي لا يُعرَفُ لها مصدرٌ.
وتضح ذلك من خلال ما تقومُ جهاتٌ صهيونيَّةٌ وشركاتٌ منظَّمةٌ بصناعةِ هويّاتٍ مستعارةٍ بأسماءٍ ولهجاتٍ عربيَّةٍ صِرفةٍ، وتعمدُ إلى بثِّ راياتٍ مزوَّرةٍ ومُفترًى عليها، وتبثُّها بتوقيتٍ معيَّنٍ عبر منصّاتِ التواصُلِ الاجتماعيِّ المختلفةِ، لتبدوَ كأنَّها من نسيجِ المجتمعِ نفسِهِ، والغايةُ من ذلك كسرُ الثقةِ، وتفتيتُ الروابطِ، وتحويلُ الاختلافِ الطبيعيِّ إلى خصومةٍ، والخصومةِ إلى عداوةٍ، وتشتيتُ المجتمعاتِ العربيَّةِ في دهاليزِ العنصريَّةِ.
إنَّ من يتابعِ التعليقاتِ المشينةَ والشتائمَ المبتذلةَ على البثوثِ المختلفةِ للمبارياتِ العربيَّةِ التي جرتْ مؤخَّرًا ضمنَ بطولةِ كأسِ العربِ في قطرَ بينَ مختلفِ المشجِّعينَ العربِ، يُدرِكْ تمامًا كم هو حجمُ الاختراقِ الصهيونيِّ للنسيجِ العربيِّ ووحدةِ الصفِّ الداخليِّ والإقليميِّ، وكم هو تأثيرُ الصهاينةِ العربِ، وأدواتِ الموسادِ داخلَ كلِّ بيتٍ عربيٍّ.
وآخرُها ما يجري الآن على الساحاتِ العراقيَّةِ والأردنيَّةِ.
وربما تبدأُ الشرارةُ من حسابٍ مزيَّفٍ، أو من جاهلٍ متخلِّفٍ، وأحيانًا — وهي الأغلبُ — تأتي من عملاءِ الصهيونيَّةِ وأدواتِ الموسادِ والماسونيَّةِ في الجسدِ العربيِّ، ممَّن باعوا ضمائرَهم وشرفَهم، ونخوتَهم، ومروءَتَهم وأعراضَهم، للفوزِ ببعضِ الدولاراتِ ووسامِ العمالةِ لأسيادِهم من أبناءِ القِرَدةِ والخنازيرِ ومن يدورُ في فلكِهم.
إنَّ الحربَ لم تَعُدْ بالنسبةِ لهم معنونةً بحشدِ الدبّاباتِ والطائراتِ والجنودِ، بل يكفيهم لسانٌ رقميٌّ في رأسِ غافلٍ أحمقٍ.
إنَّ تاريخَ الصراعِ مع الصهاينةِ يشهدُ أنَّ تفكيكَ الداخلِ كان دائمًا أسبقَ من اقتحامِ الحدودِ، والجيوشُ قبلَ أن تتحرَّكَ يسبقُها بثُّ الشكِّ، ونسجُ الخيانةِ داخلَ المجتمعاتِ المقصودةِ، وتغذيةُ الوهمِ، واستقطابُ الأنفسِ المستجيبةِ.
والجديدُ اليومَ أنَّ الجاسوسَ والعميلَ صار حسابًا، وأنَّ المنشورَ الرقميَّ يقومُ مقامَ المرسومِ السرِّيِّ، وأنَّ آلافَ النسخِ من الصوتِ الواحدِ يمكنُ أن تُصنَعَ في ثوانٍ معدودةٍ، لتبدوَ كأنَّها رأيٌ عامٌّ.
وقد اعتمدَ الصهاينةُ خططًا سياسيَّةً تُستثمرُ فيها اللحظاتُ الحسّاسةُ: انتخاباتٍ، مبارياتٍ، أزماتٍ، مناسباتٍ وطنيَّةٍ، حيث يحتدُّ الشعورُ الجمعيُّ، فيكونُ الجوُّ العامُّ مناسبًا لدسِّ الخطابِ المستفزِّ، وضخِّ المقارناتِ المهينةِ، واستدعاءِ الذاكرةِ المثقلةِ بالجراحِ، ولمزِ أصولِ الناسِ وأنسابِهم وأحسابِهم، بغيةَ إثارةِ الحميَّةِ الجاهليَّةِ الأولى، وتفريقِ الهممِ وبعثرتِها، وإحداثِ شروخاتٍ وتشوهاتٍ داخلَ المجتمعاتِ العربيَّةِ، سعيًا لتفكيكِها وإشغالِ كلٍّ بنفسِه، ليتسنَّى لهم أكلُ الثورِ الأبيضِ دونما إزعاجٍ أو اعتراضٍ أو التفاتٍ.
وقد مكَّنتهم أدواتُ الشركاتِ التكنولوجيَّةِ المتقدِّمةِ التي يملكونها أو يديرونها أو يمولونها من إدارةِ هذه الحملاتِ بجيوشٍ روبوتيَّةٍ منتشرةٍ في كلِّ زوايا الوجودِ العربيِّ، وتنسيقِ توقيتِ النشرِ، وتضخيمِ المحتوى عبر الإعجاباتِ الوهميَّةِ، وصناعةِ جدلٍ مصطنعٍ يوهمُ المتابعَ أنَّ الخرابَ من كلِّ صوبٍ.
والخوارزميّاتُ، حين تُطعَمُ بهذا الضجيجِ، تتكفَّلُ بإضرامِ النارِ في كلِّ اتجاهٍ، فترفعُ السطحيَّةَ، وتُقصِي الحكمةَ، وتنخرطُ بكلِّ أدواتِها في الفتنةِ.
ومن ناحيةٍ اجتماعيًّا، فإنَّ تماهيَ المجتمعِ مع هذه الخططِ الشيطانيَّةِ يُعدُّ من أخطرِ السقطاتِ التي تمرُّ بها الأمَّةُ، لأنَّ النتائجَ ليست في الشتيمةِ ذاتِها، بل في ما بعدها، متمثِّلةً في تآكلِ الثقةِ بين الشعوبِ، وتشويهِ صورةِ الذاتِ، وتحويلِ التنوُّعِ إلى مادَّةِ صراعٍ؛ فحين يعتادُ الناسُ سماعَ الإساءةِ من «أخٍ» مزعومٍ، يبدأُ الشكُّ في كلِّ أخٍ حقيقيٍّ.
إنَّ من الواجبِ الوطنيِّ على كلِّ الحكوماتِ والمؤسَّساتِ العربيَّةِ ذاتِ العلاقةِ أن تتنبَّهَ لهذا الأمرِ، فلا أقلَّ من متابعةِ الحساباتِ التي تثيرُ الفتنةَ وتزرعُ النزاعاتِ، والإبلاغِ عنها للجهاتِ المختصَّةِ، ومن واجبِ الجهاتِ المسؤولةِ عن الجرائمِ الإلكترونيَّةِ أن تتصدَّى لهؤلاءِ وتحولَ بينهم وبين تنفيذِ أجنداتِهم الشيطانيَّةِ، وعليها ملاحقةُ أصحابِ هذه الحساباتِ دونَ الحاجةِ إلى الحصولِ على شكوى رسميَّةٍ، ففي متابعتِهم أيسرُ الطرقِ لمعرفةِ وحصرِ من هم الصهاينةُ العربُ، والجواسيسُ الذين لبسوا لباسَنا، وانتحلوا لغاتِنا، وفرَّقوا صفوفَنا.
كذلك من واجبِ المجتمعاتِ الرقميَّةِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ أن تنهضَ بمسؤوليّاتِها وواجبِها الدينيِّ والأخلاقيِّ والعربيِّ، وأن تتصدَّى لهذه الحساباتِ بكلِّ أداةٍ ممكنةٍ، وبكلِّ وسيلةٍ متاحةٍ، والتنبيهِ بعدمِ مجاراتِها بالباطلِ؛ فالوعيُ هنا ليس شعارًا، بل ممارسةٌ واقعيَّةٌ تتطلَّبُ قراءةَ السياقِ، وفحصَ اللغةِ، وتتبعَ النمطِ، وسؤالًا واحدًا ثابتًا في كلِّ مرَّةٍ: من المستفيدُ من هذا؟ الإجابةُ غالبًا تكشفُ الخيطَ.
إنّ الأممَ التي تُهزَمُ في داخلِها لا تحتاجُ عدوًّا على حدودِها، وحمايةُ المجتمعاتِ اليومَ تبدأُ من حمايةِ العقولِ، وهذا زمنٌ يُطلَبُ فيه من كلِّ فردٍ أن يكونَ حارسًا على بوابةِ وعيِه؛ لأنَّ المعركةَ مع الأعداءِ لم تَعُدْ على الأرضِ فحسبُ، بل على كلِّ شيءٍ، فهم يدركون تمامًا أنَّ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ والعربيَّةَ لا يمكنُ السيطرةُ عليها إلا من خلالِ بثِّ الفرقةِ في مجتمعاتِها الصغيرةِ، وزرعِ الخلافاتِ، وردِّها إلى جاهليَّتِها، وحصارِها كما كانت أشلاءً وجماعاتٍ شتّى.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
21-12-2025 02:47 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||