20-12-2025 01:42 PM
بقلم : ذِكرى صالح
نحن نميل، بحكم العادة، إلى اعتبار اللغة "جسرًا" بين البشر: وسيلةً للتفاهم، وأداةً لتبادل المقاصد. لكن هذا الوصف على صحته الجزئية، لا يكشف إلا الوجه الخارجي من الظاهرة.
فالسؤال الأعمق ليس: كيف نتواصل باللغة؟ بل: كيف تتشكّل رؤيتنا للعالم عبر اللغة؟ وكيف ينتقل الإنسان من الانطباع الحسي العابر إلى المعنى الثابت، ومن الخبرة الفردية إلى المفهوم المشترك، ومن الصوت الذي يزول إلى الرمز الذي يبقى؟
* الإنشاء النحوي للكون:
لا يظهر العالم للوعي الإنساني "مفهرسًا" منذ البداية. ما يأتينا أولًا هو سيلٌ من الإحساسات: ألوان، أصوات، حركات، اقتراب وابتعاد، ألم ولذّة، خوف واطمئنان. ثم يبدأ عملٌ خفيّ يشبه بناء خرائط داخلية: نُميّز "شيئًا" من خلفية، ونفصل "حدثًا" عن مجرّد حركة، ونمنح "صفةً" استقلالًا عن صاحبها، ونربط بين الأسباب والنتائج.
هنا تتدخل اللغة بوظيفتها العميقة: إنها لا تكتفي بأن تُسمّي ما نعرفه مسبقًا، بل تساعد على تكوين ما نعرفه. فالاسم ليس ملصقًا يُعلَّق على واقعٍ جاهز، إنه حدٌّ يُرسم في الواقع. وبنية الجملة ليست ترتيبًا صوتيًا فحسب، إنها شكلٌ من أشكال تنظيم الخبرة: من فعل؟ ماذا فعل؟ لمن؟ متى؟ لماذا؟ وبأي درجة من اليقين؟
بهذا المعنى، تبني اللغة "كونًا" قابلًا للفهم، لا لأنها تخترع الأشياء من العدم، بل لأنها تجعل الأشياء قابلة للتمييز داخل شبكة من العلاقات.
*كيف تطورت اللغة البشرية؟
الإنصاف العلمي يبدأ من الاعتراف، لا نملك لحظةً تاريخية قاطعة تقول: هنا وُلدت اللغة. ما نملكه هو قرائن على مسار طويل، تتدرّج فيه القدرة الرمزية مع الحاجة الاجتماعية والمعرفية.
الأرجح أن البدايات كانت مزيجًا من الإشارة والصوت، دلالات تُفهم من السياق، ثم تُستعاد، ثم تُثبَّت بالتكرار. ومع اتساع الجماعة وتعقّد التعاون، لم يعد يكفي صوتٌ يعبّر عن انفعال آني، ظهرت حاجة إلى "تسمية" الأشياء، ثم "تسلسل" الأحداث، ثم "تحديد" العلاقات: قريب/بعيد، قبل/بعد، سبب/نتيجة، ممكن/متحقّق.
وهكذا تتحول العلامات من ردّات فعل إلى نظام، والنظام هو بداية اللغة بمعناها القوي: قدرةٌ على إنتاج عدد غير محدود من المعاني عبر عدد محدود من العناصر والقواعد.
وترافق هذا المسار مع تحوّل حاسم أن يصبح الإنسان قادرًا على الحديث عن غير الحاضر: عن الماضي، والمستقبل، والمفترض، والمستحيل، والنية، والوعد، والندم. هنا تتجاوز اللغة وظيفة التنسيق العملي إلى وظيفة بناء العالم الذهني.
* كيف تتشكل المفاهيم؟
المفهوم لا يولد جاهزًا في العقل. يبدأ عادةً بتجربة مفردة: شيء يُخيف، شيء يُؤلم، شيء يُمتع، شيء يتكرر. ثم تتراكم الخبرات، ويبدأ الذهن في استخراج "مشترك" بينها. عند هذه العتبة ينتقل الإنسان من "هذا بعينه" إلى "هذا النوع" من فرد إلى فئة، ومن حالة إلى قاعدة تقريبية.
وتأتي اللغة لتمنح هذا المشترك اسمًا. والاسم هنا ليس مجرد لفظ، إنه أداة تثبيت، ما لا يُسمّى يبقى قابلًا للتلاشي في زحام التجربة، وما يُسمّى يصبح قابلًا للاستدعاء والمقارنة والاعتراض والتعديل.
لذلك لا يكون المفهوم مجرد صورة في الرأس، بل اقتصادًا رمزيًا، اختزالًا كثيفًا لتجارب كثيرة في وحدة قابلة للتداول. وكلما اتسعت اللغة في التمييز والتسمية، اتسعت معها قدرة الذهن على بناء مفاهيم أدق.
* العلاقة بين اللغة والخيال!
الخيال يُظن أحيانًا أنه يعمل خارج اللغة، لأنه يبدو حرًّا من قيود الواقع. لكنه في حقيقته يعتمد على المادة التي توفرها اللغة: أسماء وصور وعلاقات وزمن واحتمال. فالخيال لا "يخلق من لا شيء" بقدر ما يعيد تركيب ما نعرفه في صور جديدة.
واللغة تمنح الخيال آلياته الكبرى: النفي والإثبات، الشرط والجزاء، التمني والافتراض، التقريب والمبالغة، والاستعارة. بهذه الأدوات لا يعود الإنسان أسيرًا لما هو حاضر، يصبح قادرًا على بناء سيناريوهات: "لو حدث كذا" "ربما يكون كذا"، "سيحدث كذا".
ومن هنا نفهم أن الخيال ليس ترفًا، بل وظيفة معرفية: به تُصاغ الخطط، وتُبنى القصص، وتُختبر الاحتمالات قبل وقوعها.
* ما علاقة اللغة بالتجريد؟
التجريد هو امتحان اللغة الأشد. لأنك حين تشير إلى شيء محسوس، تستطيع أن تستعين بالإيماءة أو المشاهدة. أما حين تتكلم عن "العدل" أو "الهوية" أو "الوقت" أو "القلق"، فأنت أمام معانٍ لا تُلتقط بالعين.
هنا تظهر عبقرية اللغة: إنها تجعل اللامحسوس قابلًا للتفكير. تعزل المعنى من تعدد الوقائع، وترفعه إلى مستوى المفهوم، ثم تعطيه إمكانية أن يُناقش ويُعرّف ويُقاس بآثارٍ ومعايير.
وبقدر ما تتقدم اللغة في قدرتها على التجريد، يتقدم الإنسان في قدرته على بناء المعرفة، علمًا كان أو قانونًا أو أخلاقًا أو سياسة، لأن هذه المجالات تقوم أصلًا على مفاهيم لا تُرى، لكنها تنظّم الحياة.
*متى بدأ ترميز اللغة على شكل حروف؟
الكتابة لم تبدأ حروفًا. بدأت تاريخيًا بمحاولات لتثبيت المعنى عبر علامات تمثّل أشياء أو أفكارًا، ثم تطورت إلى نظم تمثّل مقاطع أو مقادير من الكلام. ثم جاءت النقلة الكبرى: تمثيل الصوت نفسه بوحدات صغيرة تُركّب منها الكلمات.
هذه النقلة هي ميلاد "الحرف" بوصفه فكرة: أن الأصوات يمكن تحليلها إلى عناصر محدودة، وأن هذه العناصر يمكن إعادة تركيبها إلى عدد لا نهائي من الألفاظ. ومن هنا حدثت قفزة حضارية واضحة: لم يعد المعنى رهين الذاكرة الشفوية وحدها، صار قابلًا للتدوين، والتراكم، والمراجعة، والتصحيح، والبناء فوق البناء.
ومع الكتابة تتحول اللغة من حدثٍ يُقال ثم يزول، إلى أثرٍ يثبت ويُحاور أزمنةً لاحقة.
* اللسان أعم أم اللغة؟
إن قصرنا المسألة على النطق، بدا "اللسان" هو الأصل: آلة الأداء وإخراج الأصوات. لكن اللغة بالمعنى الأوسع ليست صوتًا فقط، إنها نظام رمزي: معجم، وبنية، ودلالة، وعلاقات، وطرائق في التصنيف والتفكير. وقد يتجسد هذا النظام في صوت، أو كتابة، أو إشارة.
لذلك يمكن القول إن اللسان أحد مظاهر اللغة، أما اللغة فهي أوسع: لأنها تشمل ما يجعل المعنى قابلًا للترميز والتداول داخل جماعة بشرية، بغض النظر عن الوسيط.
*أصل اللهجات عند العرب!
اللهجات ليست استثناءً ولا عيبًا طارئًا على العربية، إنها قانون عام في حياة اللغات. فحين تنتشر اللغة في بيئات متعددة، وتتعرض لعوامل اختلاف: جغرافيا، معيشة، احتكاك، عزلة، هجرة، تتكوّن أنماط نطق وتراكيب ومفردات تتمايز تدريجيًا.
وفي السياق العربي، عرف التاريخ تنوعًا لهجيًا قديمًا داخل المجال الواحد، ثم تعاقبت مراحل واسعة من الاختلاط والتوسع والاستقرار في المدن، فنتجت عن ذلك لهجاتٌ حضرية وريفية وبدوية، تتقارب في المشترك وتتباعد في التفاصيل.
والمهم هنا أن اللهجة لا تنقض وحدة اللسان، بل تُظهر حيويته: اللغة التي لا تتنوع غالبًا هي لغةٌ توقفت عن الحركة.
* إذا لم تكن الكلمة موجودة… هل الفكرة موجودة؟
تخيّل لغةً لا تعرف في العدد إلا: واحد، اثنان، كثير. في مثل هذا النظام الرمزي يصبح الفرق بين ثلاثة ومئة فرقًا بلا اسم. وما لا اسم له يصعب تثبيته في الوعي بوصفه "مقدارًا" دقيقًا، ويصعب إدخاله في حسابٍ أو مقارنةٍ أو مفاوضةٍ واضحة. ليس لأن الواقع تغيّر، بل لأن العدسة التي نرى بها الواقع محدودة.
والأمر لا يخص الأرقام وحدها. فكلمات مثل: حرية، هوية، وقت، اكتئاب ليست دائمًا ملصقات على خبرات جاهزة، كثيرًا ما تكون الكلمات هي التي تمنح الخبرة حدودها وتفصلها عن غيرها وتسمح لنا بتأملها.
حين تغيب الكلمة قد يبقى شعورٌ مبهم، أو توترٌ غير مُعرّف، أو انطباعٌ لا يستقر. وحين تحضر الكلمة يصبح الممكن أكبر: أن نفهم، وأن نميّز، وأن نشرح لأنفسنا قبل أن نشرح للآخرين.
لهذا لا تكفي العبارة التي تقول إن اللغة وسيلة تواصل. اللغة في عمقها وسيلة للتفكير، وأداة للوعي، وشكلٌ من أشكال الوجود المعنوي: بها نسمّي، وبها نرتّب، وبها نصير قادرين على أن نعرف ما نقصد.
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
20-12-2025 01:42 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||