26-11-2025 12:37 PM
بقلم : م. عامر البشير
حين يُصبح الغرق عادةً لا استثناء
لا تغرق المدن صدفةً… بل بالتراكم، غرِقت عمّان مع أوّل زخّات الشتاء، لا لأن السماء أسرفت في عطائها، بل لأن المدينة لم تكن في حالة استعداد حقيقي لاستقبال ما تعرف مسبقًا أنّه قادم، ولا في حالة إعلان طوارئ متوسطة ولا غيرها، المطر لم يكن مفاجأة، لكن الغرق كان مألوفًا، كأنّه طقسٌ سنويّ يتكرّر بإخلاص يفوق إخلاص خطط الطوارئ ذاتها… تُعلَن كل عام، ثم تختفي عند أوّل امتحان حقيقي.
طقوس الغرق السنوية
في كل موسمٍ مطري، يتكرّر المشهد ذاته:
شوارع تتحوّل إلى بحيراتٍ مؤقّتة، وأرصفة تُحاصر الماء من الجانبين، وسيّارات عالقة، وتسويات سكنية دون منسوب مداهمة المياه بين قرار لم يُتّخذ، وشبكةٍ تصريف لم تُصان.
أمّا المؤسسات… فلا تبحث عن الخلل، بل تبحث عن المُذنِب، وهنا يبدأ الانزلاق من الإدارة… إلى الاتهام.
حين تغرق الرواية قبل أن تغرق المدينة
بعد الغرق الأخير، لم يكن المشهد الأكثر إثارة للدهشة هو الماء، بل التصريحات التي جاءت بعده.
في صباحٍ واحد قيل إن السبب هو “غزارة الأمطار”، ثم قيل: “انسداد في بعض الخطوط”، ثم استقرّ الخطاب أخيرًا على: “ربط مزاريب الأسطح بشبكات الصرف الصحي بشكل مخالف”، وتكرّر الأمر في وبالتحديد الشميساني.
هنا لا تغرق المدينة فقط… بل تغرق الرواية نفسها.
كيف يمكن لمدينة أن تغرق بثلاثة أسباب في ثلاث ساعات؟
وكيف تتحوّل الحقيقة من غيمة… إلى ماسورة… إلى مزراب؟ وفي الشميساني تحديدًا، بالسرعة نفسها؟
التناقض هنا ليس لغويًا، بل مؤسسيًا، من السماء إلى المواطن… تبديل مدروس للاتهام في منطق الإدارة المرتبكة، تبدأ القصة دائمًا بريئة، المنخفض استثنائي، الأمطار غزيرة، الطقس مفاجئ.
لكن ما إن تنحسر المياه حتى يتحوّل المطر من “قدرٍ سماوي” إلى “مخالفة بلدية”.
في الصباح السماء مُدانة، وفي المساء المواطن، هنا لا نتعامل مع تفسير… بل مع تبديلٍ مدروس للاتهام.
حين تتحوّل الكارثة إلى دفتر مخالفات
بعد انحسار المياه، لا تبدأ المراجعة… بل تبدأ نيّة تحصيل المخالفات، واعلام القرار.
لا يُسأل، أين فشلت الشبكات؟ أين غابت الصيانة؟ أين نامت الخرائط؟ وهل هي موجودا بالاساس، بل يُطرح سؤال واحد فقط: من سيدفع؟
وهكذا يتحوّل العجز الإداري إلى مخالفة، ويُعاد تعريف الفشل على أنّه فرصة جباية، الماء لا يُصرَّف إلى الأودية… بل إلى دفاتر التحصيل.
الشميساني… الحيّ الذي لم يُبنَ بالأمس
حين قيل إن السبب هو “ربط مزاريب الأسطح بشكل مخالف”، برزت فجوة لا يمكن تجاوزها بالصيغ الإنشائية.
فالشميساني لم يُبنَ بالأمس، بل حيٌّ اكتمل عمرانه في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، في زمنٍ لم يكن فيه أحدٌ يجرؤ على فتح شارع دون تصريح حفر، ولا مدّ خط تصريف دون مخطّط، ولا منح إذن إشغال دون كشف.
فإذا قيل اليوم إن الخطأ من السكّان، فهناك تضاربٌ صارخ مع تاريخ المكان، إمّا أن النظام كان حاضرًا آنذاك… أو كان غائبًا.
لكنّه لا يمكن أن يكون الاثنين معًا.
خمسون عامًا من الصمت… لمن؟
إن كان الربط “المخالف” قائمًا منذ نصف قرن، فالسؤال ليس، لماذا فعل المواطن، بل: أين كانت الأمانة؟ وأين كانت الرقابة؟
أين كانت الجهات الموقّعة على إذون الإشغال؟ وهل الربط حالة فردية والا حالة عامّة؟
هل كانت المياه تمضي بصمت خمسين عامًا؟
أم أنّ الصمت كان إداريًا… لا مائيًا؟
مدينة تُدار بردّات فعل
عمّان لا تُدار بخطّة، بل بردّة فعل، لا تتوقّع… بل تبرّر، لا تمنع… بل تشرح، لا تُصلح… بل تُصدر بيانًا وتكيل اتهامات.
تنتظر الماء حتى يصل إلى مستوى يُحرج الصورة، ثم تبدأ بإعادة ترتيب العبارات.
المواطن… المتهم الدائم
في المعادلة الإدارية المختلّة، لا يُسأل من يملك القرار، بل من يكرّس الضعف، المواطن لا يُصمّم الشبكات، ولا يُحدّد منسوب الشارع، ولا يوقّع على المخطّطات،
ولا يستلم البنية التحتية، ولا يقوم بالصيانة الوقائية، ولا ينفّذ خطط الطواريء، لكنّه دائمًا… الاتهام جاهز.
الخلاصة: مدينة لا تتذكّر نفسها إلا حين تغرق، ليس السؤال الحقيقي: لماذا غرقت عمّان؟
بل: لماذا لا نتعلّم؟ لماذا لا نراكم؟
لماذا نُصرّ على العيش في اللحظة ذاتها كل شتاء؟
ليست المشكلة في الغيوم، ولا في كثافة المطر، ولا في فصول السنة،
المشكلة في ذاكرةٍ مؤسسية قصيرة، وفي عقلٍ إداريّ اعتاد أن يصل متأخّرًا، وفي مدينة لا تتذكّر نفسها… إلا حين تغرق، عمّان لا تحتاج سماءً أقلّ مطرًا، بل إدارةً أكثر صدقًا، وأطول نفسًا، وأشجع في مواجهة نفسها والتحدّيات والمدينة التي تغرق كل شتاء ليست ضحية السماء… بل ضحية نفسها.
المهندس عامر البشير
| 1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
26-11-2025 12:37 PM
سرايا |
| لا يوجد تعليقات | ||