بقلم : محمود الدباس
حسناً.. فلنضع الكلمات حيث الوجع.. دون لفّ أو دوران.. ودون أن نرفع الصوت أكثر مما يجب.. لأن الصمت الرسمي هنا أعلى من كل الصراخ..

نكتب عن قضايا الوطن.. ونذرّ الروح في الحروف.. كي لا تتحول البلاد إلى لافتة معلقة على جدار الذكريات.. نكتب لأن الكتابة آخر ما تبقى لنا من عضلة الإرادة.. لكننا نكتشف يوماً بعد يوم.. أن الحكومة لا تتعامل مع الكلمة كمرآة.. بل كضوضاء بعيدة يمكن تجاهلها.. كصوتٍ يأتي من نافذة أخرى.. يمكن إغلاقها بجرّة ستارة.. فهل المطلوب أن نترك الحديث عن الفساد والخلل والعبث.. وننتقل لشرح كيفية تقطيع البطاطا في المفركة.. وكم رشّة ملح وفلفل أسود؟!.. هل يريدون منا أن نقدم لهم وصفات مطبخية.. كي نشعر أننا مواطنون صالحون.. ويستمعون لنا؟!..

المشكلة ليست في الفساد وحده.. المشكلة في الاطمئنان إليه.. في تطبيع رائحته.. في تحويله إلى جزء من الأثاث الإداري.. مثل كرسي مهترئ في غرفة الاجتماعات.. يرونه كل يوم.. ولا يخطر ببال أحد تغييره.. مؤسسة الإذاعة والتلفزيون كانت مثالاً واضحاً.. عقود مع هواة.. ثم إلغاؤها بطريقة خجولة.. ثم شراء خدمات يمر من أعلى الدرجات.. ثم التعاقد مع شركات تظهر كالسراب ثم تختفي.. والريبة هنا ليست تفصيلاً.. بل هي العنوان.. ومع ذلك.. لا لجنة.. ولا بيان.. ولا حتى جملة تحتمل الاعتذار.. كأن ما جرى.. لا يستحق حتى محاولة تجميلية واحدة.. يعني جاملونا شوي.

ونحن نعرف في داخلنا.. أن المشكلة أعمق من حادثة.. وأكبر من مؤسسة.. هي في تلك الفكرة.. التي يهمس بها البعض.. ويريدون لها أن تصبح عقيدة وطنية.. فكرة أن الحكومة تنتصر عندما تتجاهل.. وأن النقد يضعف بمجرد عدم الرد عليه..

لكنهم لا يفهمون.. أن التجاهل لا يخمد النار.. بل يخنق الهواء عن الجميع.. حتى يشعر الناس.. أن الكلام عبث.. وأن الصمت أكرم.. وحين يصل المجتمع إلى هذه النقطة.. لا يبقى هناك بلد قوي.. بل بلد صامت.. متعب.. يدور في داخله كل شيء.. ولا يخرج منه شيء..

فالقلم حين يقف أمام السلطة.. لا يقف ضد الوطن.. بل يقف معه.. ليدافع عنه.. ويحاول أن يقول للمسؤول.. انتبه.. هذا بيتك.. قبل أن يكون منصبك.. وهذا الهواء الذي تتنفسه.. ليس مُلكاً لك وحدك.. ومَن يعتبر الصوت عدواً.. سيُفاجأ ذات يوم.. أن الصمت هو الخطر الحقيقي.. وأن المفركة التي يسخرون منا ويجرّوننا نحوها.. ستصبح وشبيهاتها فعلاً موضوع النقاش الوطني الوحيد.. وحينها سيجلس الجميع على الطاولة ذاتها.. يأكلون الطبق ذاته.. لكن بلا شهية.. وبلا بلد يصنع ما يستحق أن يقال عنه حرف واحد..

فهل نكتب عن المفركة؟!.. أم نكتب لأننا لا نقبل أن تتحول البلاد إلى قدر يغلي.. ولا أحد يرفع الغطاء؟!..

حمى الله الأردن.. ملكاً.. وشعباً.. وارضاً..

محمود الدباس - أبو الليث..