13-10-2025 08:40 AM
بقلم : جهاد المنسي
الهدنة في قطاع غزة لا تشكّل نهاية للحرب، بل بداية لمرحلة أكثر تعقيدًا في المشهد الإقليمي، فبعد عامين من الدم والنار، وعشرين عامًا من الحصار، وأكثر من نصف قرن من الاحتلال المباشر للقطاع والضفة الغربية والجولان، وسبعة وسبعين عامًا على نكبة فلسطين التاريخية، تبدو المنطقة وكأنها تقف على أعتاب إعادة تشكّل جديدة، يتراجع فيها اليمين الصهيوني وتبرز فيها أدوار عربية وإقليمية ودولية ومخططات مختلفة تمتزج فيها أفكار تقسيمية جديدة، ومحاور تتشكل.
الحرب الأخيرة على غزة كشفت حجم الوهم الذي بناه اليمين الإسرائيلي المتطرف، الذي توهّم أن القوة العسكرية وحدها قادرة على الحسم والانتصار، ولكن الأرض لا يمكن ان تخذل أصحابها، فصمدت المقاومة، رغم الفارق الهائل في الإمكانات، وتمسك الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بأرضه رغم القتل والابادة والتجويع والحصار، وعلى مدار عامين تم تعريف مفهوم الردع في المنطقة، وأسقطت وهم «الجيش الذي لا يُقهر»، فباتت إسرائيل مكشوفة أمام العالم، في عزلة سياسية وأخلاقية غير مسبوقة، بعدما تحولت من «ضحية مزعومة» كما تم تسويقها على مدار سنوات، وباتت بنظر شعوب العالم قوة احتلال تمارس الإبادة علنًا، وتقتل الأطفال والنساء وتقصف المستشفيات والكنائس والمساجد، ومراكز الإيواء أمام مرأى العالم، ليفقد كيان الاحتلال شرعيته الدولية يومًا بعد يوم.
الهدنة الحالية ليست سوى استراحة اضطرارية فرضتها موازين القوى الجديدة، وتحمل في طياتها اعترافًا ضمنيًا بانكسار اليمين الصهيوني الذي فقد تماسكه الداخلي، فنتنياهو، الذي يعيش عزلة سياسية خانقة، يخوض معركته الأشرس داخل المجتمع الصهيوني ذاته، حيث تتعالى الأصوات المطالبة برحيله ومحاسبته، فيما تحوّل حلفاؤه من المتطرفين إلى عبء ثقيل على صورة «الدولة الديمقراطية المزعومة» التي طالما حاولت إسرائيل تسويقها، لتسقط هذه الصورة سقوطًا مدويًا أمام الحقائق الماثلة للعيان.
في خضم هذه التحولات، بات من الضرورة حضور الدور الأردني كعامل توازن في معادلة «اليوم التالي» لغزة، فإعادة الإعمار وترتيب البيت الفلسطيني وفتح مسار سياسي حقيقي لا يمكن أن تتم دون ان يكون للأردن حضور ومشاركة واطلاع كامل على التفاصيل، وخلال العدوان لم يكن الموقف الأردني انفعالًا عاطفيًا، بل تعبير عن رؤية إستراتيجية شاملة تضع الأمن الإقليمي في صلب الحسابات، وكان جلالة الملك عبدالله الثاني من أوائل من حذروا من مخاطر التهجير ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، فيما تحركت الدبلوماسية الأردنية بثبات لتعرية الاحتلال في المحافل الدولية والدفاع عن القدس التي تشكّل جوهر الوعي الأردني والعربي معًا.
لكن ما يجري في غزة ليس حدثًا معزولًا عن سياق أوسع، فالجبهات المحيطة، من لبنان إلى سورية، ومن إيران إلى البحر الأحمر، تتحرك ضمن مشهد يعاد تشكيله بالكامل، يعكس انتقال المنطقة إلى مرحلة جديدة من إعادة توزيع موازين القوى. وفي المحيط سورية تواجه خطر التقسيم، ولبنان يقف على حافة توازن هش، وإيران تمارس نفوذها الإقليمي بذكاء عبر مزيج من القوة الناعمة والصلبة، فيما تتابع تركيا التطورات بخطى محسوبة، أما الغرب، الذي فقد السيطرة الكاملة على مسارات الشرق الأوسط، فإنه يحاول إعادة إنتاج نفوذه عبر صفقات أمنية وسياسية جديدة.
الخطر الحقيقي الذي يلوح في الأفق لا يتمثل في احتمال اندلاع حرب جديدة، بل في احتمال إعادة تقسيم الجغرافيا والعقول على أسس طائفية وعرقية، كما حدث قبل قرن في سايكس– بيكو، وما يقلق هو أن الغرب يعود للتفكير جدياً بهذا النهج، عبر زرع بذور تفتيت في كل رقعة من رقع الشرق الأوسط، في محاولة لإعادة صياغة المنطقة بما يخدم مصالحه لا مصالح شعوبها.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
13-10-2025 08:40 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |