حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الثلاثاء ,9 سبتمبر, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 8561

زياد فرحان المجالي يكتب: بعد ٧٠٠ يوم: حرب استنزاف تكشف سقوط الردع وتبدّل الموازين

زياد فرحان المجالي يكتب: بعد ٧٠٠ يوم: حرب استنزاف تكشف سقوط الردع وتبدّل الموازين

زياد فرحان المجالي يكتب: بعد ٧٠٠ يوم: حرب استنزاف تكشف سقوط الردع وتبدّل الموازين

06-09-2025 08:53 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : زياد فرحان المجالي
سبعمئة يومٍ كاملة مرّت منذ انفجار الحرب؛ زمنٌ كفيلٌ بإسقاط أقنعة الخطاب، وإظهار جوهر الميدان. لم تعد غزة مجرّد شريطٍ محاصر على خرائطٍ باردة، ولا بقيت إسرائيل “جيشًا لا يُقهر” في المخيال الدعائي الذي غذّى المنطقة لعقود. في هذا الامتداد الزمني الثقيل، تقلّبت الروايات، وتغيّرت المواقع، وتكشّف للعيان أنّ ما يجري ليس معركةً عابرة، بل حرب استنزاف طويلة تعيد كتابة مفردات الأمن والسياسة والاجتماع في الشرق الأوسط، وتضع العالم أمام اختبارٍ أخلاقيٍّ وسياسيٍّ غير مسبوق.
تدلّ الأرقام التي نشرتها صحفٌ ومواقعٌ عبرية في مطلع أيلول/سبتمبر ٢٠٢٥ على حجم الكلفة التي دفعها الداخل الإسرائيلي: نحو ١,٩٥٣ قتيلًا منذ بداية الحرب، وأكثر من ٢٩,٤٨٥ مصابًا من المدنيين وأفراد الأمن بدرجاتٍ مختلفة، وأكثر من ٩٠٠ جندي قُتلوا، مع ما يزيد على ٦,٢١٨ جنديًا جريحًا. أمّا المهجّرون داخليًا من مستوطنات غلاف غزة والشمال فتجاوزوا ١٤٣ ألفًا، فيما تحدّثت البيانات نفسها عن ٤٨ أسيرًا ما زالوا في غزة، وعلى الجانب المقابل أكثر من ٣٧,٥٠٠ صاروخٍ وقذيفة انطلقت نحو العمق الإسرائيلي خلال ٧٠٠ يوم. هذه ليست مجرّد أرقامٍ جامدة؛ إنّها ملامح انهيارٍ تدريجيٍّ في “يقين الردع”، وتعريةٌ لاستعصاءٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ لا تجد له القيادة الإسرائيلية مخرجًا واضحًا.
معضلة “احتلال المدينة”: حين يصبح الزمن عدوًا
تكشف التقارير العبرية أن خيار “السيطرة الكاملة” على مدينة غزة تحوّل إلى معضلةٍ عملياتيةٍ مركّبة: حربُ شوارعٍ متشعّبة، بيئةٌ حضريةٌ خانقة، شبكةُ أنفاقٍ متعددة الطبقات، معادلةُ خسائرَ فادحة، ووقتٌ مفتوح لا يعمل لصالح المهاجم. تذهب تقديراتٌ إسرائيلية إلى أنّ تثبيت سيطرةٍ فعليّةٍ على المدينة وساحلها يحتاج حشدًا بشريًا ووجستيًا ضخمًا، وقد تحدّثت بعض التقديرات عن أنّ نحو ٤٠٪ من القوة البرية ستكون مطلوبةً على نحوٍ متواصل لفرض “وجودٍ مُسيطر”، وهو ما لا يمكن للاقتصاد والمجتمع تحمّله طويلًا في ظل استدعاءات الاحتياط والإخلاءات الممتدة وارتباك الجبهة الداخلية.
في المقابل، تبيّن المعارك أنّ مرونة المقاومة وقدرتها على تجديد التموضع وإدارة الكمائن، تُبقي “خط الرجعة” مفتوحًا أمامها كلّما حاول الجيش الإسرائيلي تثبيت “خط التقدّم”. إنها حربٌ عصبية الإيقاع، قصيرة المدى – بعيدة الأثر؛ تفكيكُ أرتال، استنزافُ وحدات، ضربُ خطوط الإمداد، وإبقاء المدينة خارج القفص. لذلك، تحضر في الخلفية أسئلةٌ قاسية داخل المؤسسة العسكرية: كم من الوقت يلزم لتحقيق “إنجازٍ حاسم”؟ وهل ما يُسمَّى إنجازًا قابلٌ أصلًا للترجمة إلى مكسبٍ سياسيٍّ مستدام؟
الجبهة الداخلية: وطن في حالة قلقٍ مزمن
الإخلاءات الواسعة في الشمال والجنوب، وتحوّل آلاف العائلات إلى نازحين داخل بلدهم، جعلا الزمن الاجتماعي للحرب أثقل من زمنها العسكري. المدن التي استقبلت موجات المهجّرين تعاني ضغطًا اقتصاديًا وخدميًا؛ المدارس والبنية الصحية وسلاسل التوريد والإسكان المؤقت. هذا كلّه تزامن مع تصدّعٍ في الثقة بين الجمهور والقيادة السياسية: احتجاجات عائلات الأسرى تتجدد، انقسامٌ داخل الحكومة والمعسكرات الحزبية، واتهاماتٌ متبادلة بالتقصير والإخفاق. ومع كل يومٍ يمرّ، يتحوّل “الوعد بالحسم” إلى عبءٍ سيكولوجيّ يُضاف إلى عبء الصواريخ وأصوات الإنذارات.
ملف الأسرى: الجرح المفتوح الذي يحكم السياسة
منذ الجولة الأولى لصفقة التبادل في نوفمبر ٢٠٢٣، مرورًا بجولات ديسمبر ٢٠٢٣ ويناير ٢٠٢٥، لم ينجح المسار التفاوضي في إغلاق الملف. بقي ٤٨ أسيرًا في غزة، يحضرون يوميًا في الإعلام والشارع والسياسة، يضعون القيادة الإسرائيلية أمام معادلةٍ لا فكاك منها: يدٌ على الزناد، وأخرى على الهاتف. وكلما طال الزمن، تعاظمت كلفة الاستمرار بلا صفقةٍ شاملة، لأن المجتمع الإسرائيلي بات يعتبر عودة الأسرى معيار الشرعية لأي حكومة، أيًا كان لونها وتركيبتها.
الردع الذي تآكل
حين تُطلق المقاومة خلال ٧٠٠ يوم أكثر من ٣٧,٥٠٠ مقذوفة، ويستمر الشلل المتقطع في قطاعاتٍ حيوية، فإن الحديث عن “ترميم الردع” يصبح أقرب إلى أمنية. الردع ليس بيانًا ولا عنوانًا؛ إنّه إحساسٌ جمعيٌّ لدى الخصم بأن كلفة الفعل أعلى من كلفة الامتناع. ما جرى فعليًا هو العكس: ازدادت شهية المخاطرة عند المجموعات المقاتلة، وتبدّدت الهيبة النفسية التي كانت تُمنح مجانًا للآلة العسكرية الثقيلة. ولمّا امتدّت المواجهة شمالًا، وتواصلت المناوشات على الجبهات المختلفة، بدا المشهد – برغم الفوارق – أقرب إلى حالة استنزافٍ إقليميٍّ منخفض الشدة يضغط على الموارد العسكرية والاقتصادية والسياسية لإسرائيل في آنٍ واحد.
العالم يغيّر نبرته
سبعمئة يوم كافية لأن يعيد العالم النظر في اللغة التي يستخدمها. العواصم الغربية – وإن ظلّت تدعم إسرائيل تسليحيًا وسياسيًا – باتت تحت ضغطٍ داخلي متصاعدٍ من برلماناتٍ وصحفٍ ومنظماتٍ حقوقية وجامعات. وفي المقابل، ارتفعت كلفة الدعم على الحكومات، إذ لم يعد ممكنًا تسويق الحرب باعتبارها “ردًا محدودًا” أو “عمليةً جراحية”. أمّا في الإقليم، فقد تعمّقت حساسية الرأي العام العربي والإسلامي، وتنادت مبادرات شعبية وإعلامية وحقوقية لحفظ الذاكرة وتوثيق الانتهاكات، وأصبح الحديث عن “اليوم التالي” في غزة مرتبطًا بإجاباتٍ سياسيةٍ حقيقية، لا بوعود إعادة إعمارٍ عائمة.
الاقتصاد والمجتمع: فاتورة بلا سقف معلوم
لا تحتاج الحرب إلى خبراء اقتصادٍ لنعرف فداحة كلفتها: تعطّلٌ في سلاسل الإنتاج، نزفٌ في ساعات عمل الاحتياط، ارتفاعٌ في الإنفاق الأمني والاجتماعي، وتجريفٌ في الثقة الاستثمارية، فضلًا عن الارتجاج النفسي الذي ينعكس في المدارس والجامعات وسوق العمل والقطاع الصحي. هذه الموجات الخشنة لا تظهر في الجداول اليومية، لكنها تتراكم كـديونٍ مؤجلة تطرق أبواب الحكومات تباعًا. ومع كل استدعاءٍ جديدٍ للاحتياط، تتكرّر الأسئلة نفسها: إلى متى يمكن للمنظومة أن تموّل حربًا لا تقدّم وعدًا واضحًا بالنهاية أو بالعائد السياسي؟
الدرس العسكري: “المدينة” ليست هدفًا… بل فخّ
أظهرت العمليات أنّ المدينة المقاومة ليست مساحةً ينبغي احتلالها بقدر ما هي فخٌّ ممتد: كل شارعٍ يؤجّل الحسم، كل حيٍّ يضاعف الكلفة، وكل نفقٍ يفتح بابًا إضافيًا للاشتباك. لذلك، وجدت القيادة العسكرية نفسها بين خيارين أحلاهما مرّ: توسيع التوغّل بما يحمل من نزفٍ بشريٍّ واستنزافٍ طويل، أو الاكتفاء بضرباتٍ متكررة لا تغيّر نتيجة الحرب. وبين هذا وذاك، تتراجع “هيبة القوة” أمام الكاميرات ووسائل التواصل، لتصعد في المقابل هيبة الصمود الذي يتحوّل بمرور الوقت إلى روايةٍ جامعةٍ تتجاوز الجغرافيا.
غزة… من جغرافيا إلى معنى
لم يكسر الزمن الطويل من قدرة غزة على تعريف نفسها: مدينةٌ وصحيفةُ دمٍ شاهدة، وأطفالٌ صاروا عنوانًا للضمير العالمي، وصحافةٌ ميدانية دفعت أثمانًا باهظة لتجعل الصورة أقوى من الرصاصة. لقد تحوّلت غزة في خطاب العالم إلى معنى: اختبارٌ لقيمة حياة الإنسان، ومقياسٌ لكِذب أو صدق الحديث عن “النظام الدولي القائم على القواعد”. وهنا مكمن القلق الإسرائيلي الحقيقي: فالحرب حين تفقد “قابلية التبرير” دوليًا، تُصبح عبئًا استراتيجيًا حتى وإن امتلكت ترسانةً سلاحيةً هائلة.
سيناريوهات اليوم التالي
إلى أين يتجه المسار بعد ٧٠٠ يوم؟ تتزاحم ثلاثة احتمالاتٍ رئيسية:
1. استمرار الاستنزاف: عملياتٌ موضعية، قضمٌ بطيء، قصفٌ متكرر، وتبادلُ نيرانٍ على الجبهات، مع بقاء ملف الأسرى مفتوحًا والداخل الإسرائيلي في حالة توتّر. هذا السيناريو يفاقم الكلفة، ويؤجل السياسة بدل أن ينتجها.
2. صفقةٌ واسعة: تبادلٌ شامل للأسرى ضمن ترتيباتِ تهدئةٍ طويلة، وتثبيتُ قواعد اشتباك جديدة تُقيّد الجيش، وتمنح غزة مساحةَ تنفّسٍ إنسانيٍّ وإداريٍّ مشروطة. هذا الاحتمال يواجه مقاومةً داخلية في إسرائيل لكنه يزداد منطقيةً كلما طال الزمن وتفاقمت الضغوط.
3. محاولة حسمٍ أخير: استدعاءُ قوةٍ أكبر لعمليةٍ كثيفة في المدينة الساحلية والمخيّمات، على أمل تحقيق “صورة انتصار”. لكنّ معطيات الميدان تُنبئ بأن الكلفة البشرية والسياسية قد تجعل الانتصار الإعلامي مقدمةً لهزيمةٍ استراتيجيةٍ أوسع.
خلاصة تتجاوز الأرقام
الأرقام التي تملأ الصفحات العبرية لا تُقرأ بوصفها حصادًا إداريًا للحرب؛ إنّها لغة الفشل الاستراتيجي حين يصبح الهدف غائمًا والزمن مفتوحًا. فبعد سبعمئة يوم، لم تنجح إسرائيل في تحطيم بنية المقاومة، ولا في استعادة جميع أسراها، ولا في ترميم ردعها أو تهدئة جبهتها الداخلية. وفي المقابل، صمدت غزة – برغم الكارثة الإنسانية – في تعطيل مشروع الخصم، وتحويل ساحة القتال إلى ميزان كلفةٍ لا يطيقه المجتمع الإسرائيلي طويلًا.
لهذا، فإن السؤال الحقيقي اليوم ليس: “كم بقي للحرب؟” بل: أيّ معنى بقي للحرب؟ إن استمرت على هذا النحو، فهي تمضي بإسرائيل إلى مزيدٍ من العزلة والتفكك الداخلي، وبالعالم إلى امتحانٍ أخلاقيٍّ صارخ، وبغزة إلى دورٍ رمزيٍّ يتجاوز حدودها الضيقة. أمّا إن وُلد خيارٌ سياسيٌّ شجاع يضع حياة الناس فوق حسابات القوة العمياء، فربما تُكتب بدايةُ نهايةٍ مختلفة: نهايةٌ تُعيد للمفردات معناها، وتمنح للعدالة مقامها، وللأمن تعريفه الصحيح… أمنٌ يبدأ من وقف القتل لا من استدامته.
بعد سبعمئة يوم، يتّضح أنّ الحرب لم تعد تملك وعدها القديم. ما تملكه الآن هو مرايا كثيرة: تعكس وجوه الضحايا، وتكشف هشاشة الشعارات، وتُري كلّ طرفٍ حجمه الحقيقي بعيدًا عن ضجيج السلاح. هناك فقط، في المرآة، نفهم أنّ القوة ليست ما يُقال عنها، بل ما تُثبتُه قدرتها على صنع السلام عندما تستنفد الحرب كلّ حججها.
زياد فرحان المجالي











طباعة
  • المشاهدات: 8561
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
06-09-2025 08:53 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما مدى رضاكم عن أداء وزارة الاتصال الحكومي بقيادة الوزير محمد المومني؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم