03-09-2025 12:47 PM
بقلم : زيد مفلح الكعابنة
تَسـيَّدوا فوقَ عُرشٍ لا دعائِمَ لَهُ
كَمَن بَنَى من هَشيمِ التِّبنِ أركانــا
لطالما مثّل شيخ العشيرة في الموروث الاجتماعي والسياسي العربي تجسيدًا لسلطة رمزية مستمدة من حكمةٍ مُكتسبة، وشرعيةٍ تاريخية، وقدرةٍ على فض النزاعات وإدارة شؤون الجماعة. كان "شيخ الحل والعقد" بمثابة العمود الفقري للنسيج الاجتماعي. إلا أن التحولات الاجتماعية والاقتصادية الهائلة، وبروز مجتمع مابعد الحداثة ، وانزياحات العولمة، أفرزت نمطًا جديدًا من الزعامات العشائرية: "الشيخ الورقي" أو "شيخ الكارتون". وهو شخصية تفتقر إلى المقومات التقليدية للسؤدد ولكنها تلبس هذا الثوب بفعل عوامل خارجية، لتصنع سلطة وهمية هشة، أشبه بقلعة من ورق، تتهاوى عند أول اختبار حقيقي.
ففي حقبة التحولات السريعة، حيث تتصادم التقليدي والحديث، لم تعد الشرعية تُكتسب بالضرورة عبر المسارات التقليدية من إرث تاريخي أو حكمة مُجرَّبة أو إنجاز ملموس. لقد أفرز عصرنا أنماطًا هجينة من القيادة، هي أشبه بتماثيل تحل محل الأصل وتُقدَّم على أنها البديل الحقيقي.
أولاً : من هو "الشيخ الورقي"؟
الشيخ الورقي ليس مجرد شيخ ضعيف، بل هو حالة انزياح كامل عن المفهوم الأصلي ، فشرعيته لا تنبع من داخله أو من اعتراف جماعته به كمرجعية حكيمة.
والشيخ الورقي : هو النظير في الحقل العشائري التقليدي. لم يعد "شيخ الحل والعقد" الذي تستمد شرعيته من حكمة مُكتسبة ومواقف مشهودة ونزاهة مثبتة. وهو شخصية تفتقر إلى هذا الرصيد الرمزي، ولكنها تلبس عباءة المشيخة بفعل عوامل خارجية. شرعيته "مستعارة" من سلطة إجتماعية مزيفة أو نفوذ اقتصادي، مما يجعله "شيخ مكتب" أو "شيخ قرار" وليس "شيخ جماعة". وهو بناء إيديولوجي وإعلامي. قوته مستمدة من خطاب استعراضي
يخلق واقعًا موازيًا من البطولات المُختلقة والإنجازات المُبالغ فيها. يُقدّم المشروع على أنه شعارات جوفاء، والرؤية على أنها صورة مصقولة. وجوده قائم على الإقناع الافتراضي، و التغليف الإعلامي: يحوَّل الشخص إلى "علامة تجارية" فالإعلام (التقليدي والرقمي) الشعبوي هو البيئة الطبيعية لتكاثر هذه النماذج، حيث يُصنع الزعيم الوهمي عبر الخطابات المصوّرة، ويُصنع الشيخ الورقي عبر المناسبات الإعلامية والظهور المصحوب بلقب "الشيخ" دون مضمون.فأصبح الإعلام كخادم مطييع، أحيانًا عن قصد وأحيانًا عن جهل، في تلميع صورة هؤلاء ومنحهم شرعية لا يستحقونها، من خلال منحهم مساحات إعلامية وتقديمهم على أنهم الممثلون الشرعيون للجماعة. كما أن اقتصاد الريع والامتيازات: تحول بعض المشيخات من موقعها الاجتماعي إلى موقع اقتصادي. من يملك المال أو يستطيع الحصول على امتيازات ، يمكنه أن "يشتري" الولاءات ويصنع لنفسه مكانة "شيوخية" قائمة على الاستقطاب المادي وليس على النفوذ الأخلاقي.
ثانياً: ظاهرة "الشيخ الورقي" ليست بريئة، بل تحمل في طياتها سمومًا تنخر في جسد البنية العشائرية والمجتمع الأوسع:
تآكل المصداقية وانهيار الثقة: عندما يفقد منصب الشيخ هيبته وقيمته، تسقط معه آخر مرجعيات التقليد الاجتماعي القادرة على لعب دور الوساطة والتسكين. هذا يفتح الباب للفوضى واللجوء إلى العنف وينتج صراعات داخلية فظهور "شيخ ورقى" مدعوم من الخارج يقابله عادة ظهور "شيخ شعبي" تتمسك به فئة من العشيرة، مما يقسم الجماعة الواحدة إلى كتل متصارعة، ويُضعفها بشكل كبير.
وأيضاً يؤدي إلى انزياح القيم، فتتحول قيمة الشيخ من "الحكمة والكرم والشجاعة" إلى "الثراء والولاء والعلاقات". هذا الانزياح القيمي يسمم المجتمع بأسره ويحول العلاقات من عضوية إلى نفعية بحتة.
وينتج إفراغ الموروث من مضمونه ،فتتحول العشيرة من كيان اجتماعي عضوي إلى هيكل فارغ، تُستغل شعاراته ورموزه من قبل "الشيوخ الورقيين" للوصول إلى مكاسب شخصية، مما يؤدي إلى تشويه صورة الموروث العشائري الأصيل بكامله.
ثالثاً : استعادة الموروث من براثن التزييف استعادة الجوهر.. كيف نواجه ثقافة الورق
لمواجهة هذه الظاهرة، لا بد من عملية تنقية ذاتية من داخل المجتمع العشائري نفسه، تستعيد فيها الجماعة وعيها وتقرر من هو ممثلها الحقيقي بناءً على معايير أصيلة
فالخطر ليس على العشيرة وحدها، بل على السلم المجتمعي بأكمله. "الشيخ الورقي" هو علامة على مرض اجتماعي أعمق، هو مرض الانزياح عن الذات والهوية، والاستسهال في بناء الرموز. إن مواجهته هي، في جوهرها، معركة من أجل استعادة المعنى الحقيقي للقيادة، والشرعية، والانتماء، وتمثل ظاهرة "شيوخ العشائر من ورق" أحد تجليات أزمة التحول في المجتمعات العربية بين التراث والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة. وهي تدل على اختلال عميق ، حيث تحولت بعض الزعامات التقليدية إلى مجرد واجهات شكلية تفتقر إلى الجوهر الأصيل للقيادة العشائرية الأصيلة، مما يستدعي إعادة نظر نقدية في آليات اختيار القيادات وطبيعة العلاقة بين الموروث الثقافي ومتطلبات العصر الحديث
ومواجهة ظاهرة "الزعامات الوهمية" و"شيوخ الورق" هي معركة ثقافية وفكرية في المقام الأول. لا بد من:
يقظة نقدية جماعية تحويل المواطن/الفرد من مستهلك سلبي للصور إلى ناقد فاعل للأفكار والخطابات.
واستعادة المعايير الموضوعية: يجب أن تعود المعايير إلى الواجهة: قياس الزعيم بمشروعه وإنجازاته الملموسة، وقياس الشيخ بحكمته ومواقفه ونزاهته، وليس بعدد متابعيه أو بريق صوره، ورفض الاستعارة ورفض منح الشرعية لأي قائد أو شيخ لم تستمد شرعيته من أصوله الحقيقية، سواء كانت جماهيرية أم تقليدية.
وحماية الموروث من التزييف: حماية الموروث الثقافي والعشائري الأصيل من خلال التنقية الذاتية ومحاسبة من يحاولون تشويهه لتحقيق مكاسب شخصية
إن أزمة "الزعامات الوهمية" ليست مشكلة أفراد بقدر ما هي أزمة وعي جماعي؛ فإذا كان المجتمع يفتش عن رموز سريعة الاستهلاك بدل أن يُنشئ قادة حقيقيين، فإنه يزرع بذور الانهيار الرمزي والمعنوي. أما الخلاص، فيكمن في إعادة الاعتبار لفكرة الزعامة الأصيلة: زعامة الفعل لا القول، والقدوة لا الصورة، والحقيقة لا الورق
________________________
المصادر والمراجع
1. خوري، فؤاد. السلطة والمجتمع في العالم العربي: دراسة أنثروبولوجية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2005.
2. الهاشمي، ماجد. التحولات البنيوية في المجتمع القبلي: من البداوة إلى ما بعد الحداثة. أبوظبي: دار السويدي، 2018
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
03-09-2025 12:47 PM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |