حرية سقفها السماء

وكالة سرايا الإخبارية

إبحــث في ســــرايا
الجمعة ,25 يوليو, 2025 م
طباعة
  • المشاهدات: 7421

د.عاصم منصور يكتب: الأمة المعلقة بين الخطاب والفعل

د.عاصم منصور يكتب: الأمة المعلقة بين الخطاب والفعل

د.عاصم منصور يكتب: الأمة المعلقة بين الخطاب والفعل

22-07-2025 08:50 AM

تعديل حجم الخط:

بقلم : د.عاصم منصور
قال لي أحدُ المُستشرقين الرُّوسَ يوما، وكنت قدْ التقيته ذاتَ صيفٍ على هامشِ معرض للكتبِ في موسكو، وكان الحديث قد تشعّب بيننا حتى ذكَرتُ له مفهومَ الأُمّة عند المسلمينِ والعربِ، وتوقُ هذه المجتمعات للوحدةِ.


ابتسم وقال: "هذه أفكارٌ يغلُبُ عليها الطّابع العاطفي ولنْ تصمدَ أمامَ الواقعِ." ثم أضاف بِثِقة الْعارف: "عندما تنتفي المصلحةُ الفردِيّة؛ سينقلبُ النّاس على جميعِ أحلامِ الوحدة لصالحِ الدّولةِ القطرية." رأيتُ في كلامهِ يومَها قسوةٌ أو ربّما سوءُ فهمٍ لعمقِ الرَّوابط التي تجمعُنا؛ لكن مع مُرور السَّنوات وتوالي الأحداث؛ بدأتُ أرى كمْ أنَّ الواقعَ أكثرُ تعقيدًا من الحُلمِ.

لا أدري لماذا نفّضتُ غُبارَ السِّنين عن تلكَ الحادِثة التي لمْ أرَها حينها أكثر من ثرثرةٍ عابرةٍ على هامشِ حدَثٍ ثقافي، وأنا أراقِبُ اليومَ الجدل الذي يملأُ الفضاء الافتراضي حولَ ردَّةِ فِعل "الأمة" حِيالَ العدوانِ على غزة.
بين من يرى في حالةِ العجزِ التي تمرُّ بها الأُمّة جريمةَ سندفَعُ جميعًا ثمنَها، ومن يرى أنَّ الأولويَّة القُصوى هي الحِفاظ على الدَّولةِ القطريةِ منَ التفككِ والانهيارِ.
غزّة ليست مجرّدُ جُغرافيا مُحاصرةٌ أو ساحةُ مُواجهةٍ عسكريةٍ؛ بلْ مِرآةٌ تعكسُ تناقُضاتِنا العميقة؛ فعند كل عُدوان، يتجدّد الحديث عن "الأمّة" ككيانٍ جامِع، لكن سُرعان ما تتبدّد هذه الوحدة أمامَ حساباتِ السياسةِ والاقتصادِ والأمنِ. فكلُّ دولةٍ تزِنُ خُطُواتها بميزانٍ حسّاسٍ: إلى أي مدى يُمكن أنْ نُسانِد غزّة دون أنْ نخسر مصالحنا؟ وإلى أي حدٍّ يُمكن أنْ نرفَعَ سقفَ الخِطابِ دونَ أنْ نُغضِبَ حليفًا أو نخسرَ دعمًا دُوليًّا؟
تاريخيًّا؛ كان مفهومُ الأُمّة يحمِلُ طُموحًا يتجاوزُ الحُدود، ويستندُ إلى روابطِ الدّينِ واللغةِ والتاريخِ المُشترك؛ لكنّه اليوم تحوَّلَ إلى شِعارٍ يُستدعى عندَ الحاجةِ، ويُعلّق جانبًا حين تتعارضُ مُتطلباتُه مع أولويّات الدَّولة القطريَّة. فأصبحنا نُردِّد "الأمُّة" في الخَطبِ والبياناتِ، لكنّنا نعيشُ "الدَّولة" في السياساتِ والقراراتِ، وحتى في لحظاتِ الغضبِ الجماعي؛ يبقى الفِعلُ مَحكومًا بسقفِ المصالحِ الوطنيةِ، لا بِسعةِ الحلم الْجمْعيّ.
لقد تضاءَلت وخمدت شِعارات "الجامعة الإسلامية" و"الجامعة العربيّة" مُنذُ عهد الأفغاني، ومحمد عَبدُه والكواكِبي ووصلت إلى المُستوى القطري؛ بلْ وما دون القطري -محلية ومذهبية- ، ولمْ يكن ذلك لنجاحِ الدّولةِ القطرية في تحقيق الأهداف الكُبرى، بلْ لِفشلِها في تحقيقِ الوحدةِ والتّنميةِ والحرّيةِ، ثمّ فشلها في القيامِ بدورٍ مُؤثِّر في الأحداث ِ الكُبرى التي تَعصِفُ بالجوارِ العربي، والمحيطِ الحيوي للأمْنِ القومي والإسلامي والقطري.
وعندما تستدعي الإبادةَ المفتوحةَ، والمُحرِّكة لكلِّ المشاعر الإنسانية، يستدعى شعار "الأُمّة" كسيرًا ومشوّهًا ومُؤقّتًا، وما أسرع ما نتخلى عنه حين يبدو ثمنُه القريبُ كبيرًا، حتى المُؤمِنون بالوِحدةِ أو حتى التَّضامُن، لا يُظهرون في هذه الحِقبةِ استعدادًا حقيقيًّا للتضحيةِ، أو تغيير نمط حياتهم من أجلِ قضيَّةٍ بعيدةٌ جُغرافيًّا وقريبةٌ وُجدانيًّا، ولكن هناك الكثير ممّن هو مُستعد لدفعِ الأثمانِ الباهظةَ لو تعلَّق الأمرُ بالانتماءاتِ الأضيق.
وإذْ لا يُمكن للدَّولةِ القطريةِ وما دونها أنْ تُشكِّل أُمّة بمعناها الحقيقي؛ فإنَّ فكرةَ الأُمّةُ الأكبر ستظل أملاً حاضِرًا في وُجدان الشّعوب، وتظهر بقوةٍ في لحظاتِ الحاجةِ المُلحّة واشتداد الألمْ، وإن أعوزتها القوّة الشعبيّة والفِكريّة المُحرِّكة، والمشروعُ المُؤسَّسي والسِّياسي القادرُ على تحويلِها إلى فِعلٍ منظّمٍ. ولرُّبَما يحتاجُ مفهومُ الأمّة، وسبيل الوصْل إليهِ إلى إعادةِ إنتاجٍ في ظلِّ التّجارُب القاسية، والتّغييرات المدفوعة من الخارجِ، وهو ما يسعى العديدُ من المثقّفين والمفكّرين البحثَ فيه، وتقليبِ أمرهِ عند كلِّ مُنعطفٍ، لعلّها تُفلحُ يومًا.











طباعة
  • المشاهدات: 7421
 
1 -
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
22-07-2025 08:50 AM

سرايا

لا يوجد تعليقات
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
ما رأيك بأداء وزارة الاستثمار برئاسة مثنى الغرايبة؟
تصويت النتيجة

الأكثر مشاهدة خلال اليوم

إقرأ أيـضـاَ

أخبار فنية

رياضـة

منوعات من العالم