03-06-2025 08:58 AM
زيد مفلح الكعابنة
قيل في دقة الصنعة قديما:
"العقول الكبرى تنحت انتصاراتها بازميل الخفاء،
وترفض ان تصهر فضتها في ساحات الهتاف."
وقيل في سطوة البطولة الخفية:
"ليس الفارس من يلوح بسيفه في الافق،
بل من يدفن صوت الحصان في ظلمات الوعر حتى يثب الفجأة!"
وقيل في فلسفة الكمين:
"الحكمة لا تركض وراء الاضواء،
بل تجلس في زاوية المعركة تحسب خطوات الغد بعقول الامس."
في عالم تعلو فيه الاصوات وتتنافس الالسنة بالادعاءات، يظل صانعو الفعل الحقيقيون في صمت كصمت الجبال الشامخة. ان صمتهم ليس فراغا، بل حكمة تختزن طاقة العمل، ودهاء يوجه الجهد حيث ينبغي، ونباهة تدرك ان زهو الكلام يضعف الفعل. انهم يعرفون ان العظمة لا تبنى بضجيج التباهي، بل بثبات الخطى وهدير الانجاز الصامت.
اما اولئك الذين يملؤون الدنيا بثرثرة "البطولات" المزعومة، فينفقون اعمارهم في حياكة الاوهام بالكلمات، فانهم لا يبنون مجدا، بل ينسجون سرابا. ضجيجهم ما هو الا قناع يخفي فراغا، وادعاءاتهم ما هي الا اصداء لبلاهة تظنها ذكاء. انهم كالطبل الاجوف: صوته عال، لكنه فارغ من اي معنى حقيقي. كل كلمة يقولونها تنزع من قدرة فعلهم شيئا، وتزيد من مسافة الخلل بين ما يظهرون وما يخفون.
التاريخ لا يسجل صيحات المتبجحين، بل يخلد بصمات الصامتين العاملين. المهاتما غاندي غير امة بصمته الثوري وصموده العملي، لا بخطب رنانة. العلماء والمخترعون قضوا الليالي في مختبرات صامتة، فغيروا وجه البشرية دون ضجيج. حتى في حياتنا اليومية، ترى المعلم المخلص، والطبيب المتفاني، والاب الحاني – انجازاتهم تكتب بمداد العمل لا بمداد الادعاء.
احذر ان تخلط بين الصمت والسلبية! صمت البناءين هو صمت القوة والتركيز، صمت من يحرث الارض ويغرس البذور بعيدا عن الاضواء. اما ضجيج المتبجحين فهو صرخة لتعويض العجز، ومحاولة يائسة لسرقة مجد لم يكتسب.
فليكن عملك جبلًا شامخًا يصنع التاريخ بصمته، ولا تكن سرابًا ضاحكًا يتبدد بثرثرته. دع أصوات أفعالك تعلو فوق كل ضجيج.. فهي وحدها تترجم نباهة الروح، وتكشف زيف الأقوال.
فالظهور خدعة تلهي العيون، اما الحكمة الحقيقية فتكمن في الحركة الخفية التي تغير مجرى المعارك دون ان تعلن عن نفسها كنسم ينفجر في ظلمة الكون، لا يدرك الناس نوره الا بعد زمن وليس الدهاء في صخب البطش، ولا في زهو الكلام الذي يملأ الفضاء فخرا جوفاء. انه يتسربل برداء الصمت الوثيق، ويتوارى في كنف التواضع العميق.
انظر الى الجبل: صامت، راسخ، لا يهدد بصوت، ولا يتعالى براس. لكن عمق اصوله في الارض ينبئ عن قوة لا تقاوم، وحكمة تتجاوز ضجة الرياح العاصفة.
والتواضع... ليس ضعفا بل سياج العزة الحقيقية. الم تر شجرة الرمان كيف تنحني اغصانها بثقل ما تحمل من نعم؟ كلما ازدادت عطاء، ازدادت انحناء. والمتواضع كذلك: علمه وفضله يثقلان جفناه فيطيل الخضوع، لانه يعرف ان البحر لا يزهي بماء يأتيه، والنبتة لا تتكبر بقطرة الندى. انه يترفع بتواضعه عن سفاسف المنافسات، ويبني عظمته في قلوب الناس بغير صخب.
اما المتعالي المتباهي، فان دهاءه ظاهر هش كفقاقيع الصابون. صوته المرتفع يخفي فراغ العقل، وتيهه يعلن خواء القلب. يظن انه يرتقي باذلال الغير، وهو لا يدري انه يحفر قبر كبريائه باظافره. الكبرياء سحابة صيفية، تظن نفسها جبلا، ثم تتلاشى بلا اثر.
فالدهاء الحقيقي، يا صاحب اللب، هو ان تكون ماء هادئا تحت السطح، تجري في اعماق الحياة برقة وقوة، تغذي وتنعش بلا ضجيج. هو ان تكون كالنجوم: بعيدة عن الضجيج، واضحة في السماء، تهدي دون ان تأمر، وتضيء بلا صرخة. لان العظمة الخالدة لا تصاحب الا الصمت الوقور، والتواضع الجميل.
اليس الصمت هو لغة العقول الكبرى؟ اليس التواضع هو زينة الحكمة الباقية؟ فلنتعظ.
1 - |
ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه.
|
03-06-2025 08:58 AM
سرايا |
لا يوجد تعليقات |