بقلم : محمود العمارات البلاونة
في ظل التحولات التي يشهدها عالم الأعمال اليوم، أصبحت المؤسسات تواجه تحديات متزايدة تتطلب منها أدوات ذكية تدمج بين التكنولوجيا والمرونة البشرية، ومن بين هذه الأدوات برزت محاسبة الموارد البشرية، التي لا تقتصر فقط على تتبع التكاليف المرتبطة بالعنصر البشري، انما تجاوزت ذلك لتصبح وسيلة استراتيجية لقياس القيمة الحقيقية التي يضيفها الإنسان داخل المنظومة المؤسسية، لكن هذه القيمة لا تختزل فقط في بيانات رقمية أو مؤشرات أداء جامدة، فهي في جوهرها تقوم على بعد إنساني لا يمكن فصله عن المعادلة، من هنا تنبع أهمية الحديث عن التكامل بين البعدين وتطبيقه.

محاسبة الموارد البشرية لا يمكن أن تؤتي ثمارها ما لم تعكس البعدين الأساسيين في العملية: الرقمي، بما يحمله من أدوات تحليل ونظم معلومات ومؤشرات أداء وتقييم مالي دقيق، والإنساني بما يمثله من فهم عميق لاحتياجات الموظف، مشاعره ودوافعه وأثره في جو العمل وثقافة المؤسسة. الاعتماد فقط على الأرقام يؤدي إلى تقييم ظاهري يفتقد للعمق ولا يراعي السياقات النفسية والاجتماعية التي تحيط بالموظف، بينما التركيز فقط على الجوانب الإنسانية دون الاستفادة من أدوات القياس الحديثة يضعف القدرة على اتخاذ قرارات مستندة إلى بيانات دقيقة وموضوعية.

وعند الحديث عن التطبيق تظهر التحديات بوضوح، فكثير من المؤسسات خاصة في البيئات التقليدية لا تزال تعتبر محاسبة الموارد البشرية رفاهية إدارية أو ممارسة غير ضرورية مما يؤدي إلى ضعف في ربط أداء الموظف بالقيمة الاقتصادية التي يضيفها. أما المؤسسات التي بدأت خطواتها في هذا الاتجاه فقد تقع في المبالغة في الرقمنة فتصبح عملية التقييم آلية بحتة تخضع الموظف لمنطق الرقم فتتجاهل ما يحفزه وما يعيقه وما يجعله يؤدي بأفضل ما لديه. التطبيق السليم لا يبدأ من النظام المحاسبي نفسه، من المنظور الذي تحكم به إدارة المؤسسة للعلاقة مع موظفيها: هل ينظر إليهم كتكلفة يجب تقليصها ام كأصل يتطلب استثماره وتطويره؟

حتى تكون المحاسبة فعالة في بيئة العمل يجب أن تصمم بمنهجية تراعي التوازن، لا بد أن تتضمن نماذج التقييم مقاييس كمية دقيقة مثل تكلفة التوظيف والعائد على التدريب ونسبة الإنتاجية إلى جانب مؤشرات تعكس الرضا والانتماء ومستوى التحفيز وجودة العلاقة مع الإدارة، وهنا يظهر دور التكنولوجيا كعنصر داعم لا مهيمن يساعد على استخراج أنماط ومعطيات، ولكن بمرونة تفسح المجال لتدخل بشري مدروس يقرأ هذه البيانات في سياقها الصحيح.

إن التكامل الحقيقي لا يعني المساواة بين البعدين، انما تحقيق الانسجام بينهما؛ فالبعد الإنساني يوفر البوصلة الأخلاقية والثقافية لفهم سلوك الموظف وتقدير قيمته، في حين يوفر البعد الرقمي أدوات عملية لتقييم الأداء وتحسين القرارات الإدارية. وأكثر المؤسسات نجاحًا في هذا هي تلك التي تبني أنظمة محاسبة موارد بشرية مرنة، قابلة للتعديل حسب طبيعة العمل والبيئة المحيطة، وتشرك فيها قادة من مختلف الإدارات لضمان شمولية الفهم ودقة التقييم.

تطبيق هذا التكامل لا يتطلب فقط أدوات تقنية أو مهارات تحليلية، يحتاج إلى وعي إداري أن القيمة البشرية لا تختصر في إنتاجية يوم أو شهر، انما تبنى على مدى طويل من التفاعل والتقدير والاستثمار المستمر، وعندما تتمكن المؤسسة من ربط هذا الفهم الإنساني بالتحليل الرقمي الذكي فإنها لا تحقق فقط نتائج مالية أفضل، بل تبني ثقافة مؤسسية صحية، عادلة، ومستدامة.